الباب الحادي والثلاثون
في الحياء من الله تعالى
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الحياء من الايمان(1).
وقال يوماً لأصحابه: استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: ما نصنع يا رسول الله؟ قال: ان كنتم فاعلين فليحفظ أحدكم الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وليذكر الموت وطول البلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا(2)، فمن فعل ذلك فقد استحى من الله حق الحياء(3).
وروي انّ جبرئيل عليه السلام نزل إلى آدم بالحياء والعقل والايمان، فقال: ربك [يقرئك السلام و](4) يقول لك: تخير من هذه الأخلاق واحداً، فاختار العقل، فقال جبرئيل للايمان والحياء: ارحلا، فقالا: اُمرنا أن لا نفارق العقل(5).
____________
1- راجع البحار 71: 336 ح 19.
2- في "ب" و"ج": الحياة الدنيا.
3- روضة الواعظين: 460.
4- أثبتناه من "ب".
5- راجع الكافي 1: 10 ح2 نحوه.
وروي انّ الله تعالى يقول: عبدي انّك إذا استحيت منّي أنسيت الناس عيوبك، وبقاع الأرض ذنوبك، ومحوت من الكتاب زلاّتك، ولا اُناقشك الحساب يوم القيامة.
وروي انّ الله تعالى يقول: عبدي انّك إذا استحيت منّي وخفتني غفرت لك.
وروي انّ رجلاً رأى رجلاً يصلّي على باب المسجد فقال: لم لا تصلّي فيه؟ فقال: استحي منه أن أدخل بيته وقد عصيته.
ومن علامات المستحي أن لا يُرى في أمر استحى منه، وأوحى الله إلى عيسى عليه السلام: فإن اتعظت وإلاّ فاستحي مني أن تعظ الناس.
وعلامات السفهاء خمس: قلّة الحياء، وجمود العين، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل، وقسوة القلب.
وقال الله تعالى في بعض كتبه: ما أنصفني عبدي، يدعوني فاستحي منه أن أردّه، ويعصيني ولا يستحي منّي.
ونهاية الحياء ذوبان القلب للعلم بانّ الله مطّلع عليه، وطول المراقبة لمن لا يغيب عن نظره سرّاً وعلانية، وإذا كان العبد حال عصيانه يعتقد انّ الله تعالى يراه فانّه قليل الحياء، جاهل بقدرة الله، وان كان يعتقد انّه لا يراه فانّه كافر.
الباب الثاني والثلاثون
في الحزن وفضله
قال الله تعالى: {وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم}(1)، وما كان حزنه إلاّ عبادة الله تعالى لا جزعاً.
وروي انّ النبي صلى الله عليه وآله كان دائم الفكر، متواصل الحزن، وانّ الحزن من أوصاف الصالحين، وانّ الله يحب كل قلب حزين، وإذا أحب الله قلباً نصب فيه نائحة من الحزن، ولا يسكن الحزن إلاّ قلباً سليماً، وقلب ليس فيه الحزن خراب، ولو انّ محزوناً كان في اُمة لرحم الله تلك الاُمة.
قال مصنف الكتاب: ليس العجب من أن يكون الإنسان حزيناً، بل العجب كيف يخلو من الحزن ساعة واحدة، وكيف لا يكون كذلك وهو يصبح ويمسي على جناح سفر بعيد، اول منازله الموت، ومورده القبر، مصدره القيامة، وموقفه بين يدي الله تعالى.
أعظاؤه شهوده، وجوارحه جنوده، وضمائره عيونه، وخلواته عيانه، يمسي
____________
1- يوسف: 84.
بين أعداء كثيرة: نفسه، والشيطان، والعمل(2)، والعائلة يطلبونه بالقوت، وحاسد يحسده، وجار يؤذيه، وأهل يقطعونه، وقرين سوء يريد حتفه، والموت موجه إليه، والعلل متقاطرة عليه.
ولقد جمع هذا كله مولانا أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: عين الدهر تطرف بالمكاره والناس بين أجفانه، والله لقد أفضح الدنيا نعيمها ولذتها الموت، وما ترك لعاقل فيها فرحاً، ولا خلّى القيام بالحق للمؤمن في الدنيا صديقاً ولا أهلاً.
ولا يكاد من يريد رضى الله تعالى وموالاته يسلم إلاّ بفراق الناس، ولزوم الوحدة والتفرّد منهم والبعد عنهم، كما قال تعالى: {ففرّوا إلى الله انّي لكم منه نذير مبين}(3)، أراد سبحانه بالفرار إليه اللجأ من الذنوب، والانقطاع عن الخلق، والاعتماد عليه في كل الأحوال، وما يكاد يعرف الناس من يقاربهم، والوحشة منهم تدل على المعرفة بهم.
وأوصى حكيم حكيماً فقال له: لا تتعرّف إلى من لا تعرف، فقال له: يا أخي أنا أزيدك في ذلك: وأنكر من تعرف لأنّه لا يؤذي الشخص من لا يعرفه.
والمعرفة بين الرجلين خطر عظيم لوجوه، منها قيام الحق بينهما، وحفظ كل واحد منهما جانب صاحبه في مواساته(4) ومؤازرته وعيادته في مرضه، وحفظه في
____________
1- في "ج": ميتة.
2- في "ج": الأمل.
3- الذاريات: 50.
4- في "ب": مساواته.
وهذا ثقيل جسيم لا يكاد يقوم به إلاّ من أيّده الله بعصمته، والله لو لا الغفلة والجهل ما التذّ عاقل بعيش، ولا مهد فراشاً، ولا توق طعاماً، ولا طوى له ثوباً، وكان لا يزال مستوفراً قلقاً مقلقاً متململاً كالأسير في يد من يذبحه، وكذلك نحن مع ملك الموت في الدنيا كذئب الغنم، وملك الموت قصّابها.
من المصنف:
لا تنسوا الموت في غم ولا فرح | فالأرض ذئب وعزرائيل قصّاب |
ومن عجب الدنيا أن يحثو المرء التراب على من يحب، ويعلم انّه عن قليل يُحثى عليه التراب كما حثاه على غيره وينسى ذلك، وأعجب من ذلك انّه يضحك والله تعالى يقول: {أفمن هذا الحديث تعجبون * وتضحكون ولا تبكون}(3).
وروي انّه كان في الكنز الذي حفظه الله تعالى للغلامين: عجب(4) لمن أيقن بالموت كيف يفرح ويضحك، وعجب(5) لمن أيقن بالحساب كيف يذنب، وعجب لمن أيقن بالقدر كيف يحزن، وعجب لمن عرف الدنيا وتقلّبها بأهلها كيف يطمئنّ إليها؟! وأعقل الناس وأفضلهم المحسن الخائف، وأحمقهم وأجهلهم مسيء آمِن(6).
وقال المصنف: كنت في شبيبتي إذا دعوت بالدعاء المقدم على صلاة الليل، ووصلت إلى قوله: "اللهم انّ ذكر الموت، وهول المطلع، والوقوف بين يديك نغّصني
____________
1- في "ج": يخلفه.
2- في "الف": بغبطته.
3- النجم: 59-60.
4- في "ج": عجبت.
5- في "ج": عجبت.
6- مجمع البيان، سورة الكهف; عنه البحار 70: 152.
فلمّا كبرت السن، وضعفت القوة، وقربت سرعة(3) النقلة إلى دار الوحشة والغربة ما بقي يندفع هذا عن الخاطر، فصرت ربما أرجو لا اُصبح إذا أمسيت، ولا اُمسي إذا أصبحت، ولا إذا مددت خطوة أن أتبعها اُخرى، ولا أن يكون في فمي لقمة أسيغها، فصرت أقول: "الهي إذا ذكرت الموت وهول المطلع، والوقوف بين يديك نغّصني مطعمي ومشربي، وأغصّني بريقي، وأقلقني عن وسادي، ومنعني رقادي، ونغّص عليّ سهادي، وابتزّني راحة فؤادي.
الهي وسيدي ومولاي مخافتك أورثتني طول الحزن، ونحول الجسد، وألزمتني عظيم الهم والغم ودوام الكمد، واشغلتني عن الأهل والولد والمال والعبيد، وتركتني مسكيناً غريباً وحيداً، وان كنت بفناء الأهل والولد ما أحس بدمعة ترقأ من اماقي، وزفير يتردد بين صدري والتراقي.
سيدي فبرّد حزني ببرد عفوك، ونفّس غمّي وهمّي ببسط رحمتك ومغفرتك، فانّي لا آمن إلاّ بالخوف منك، ولا أعزّ إلاّ بالذل لك، ولا أفوز إلاّ بالثقة بك والتوكل عليك يا أرحم الراحمين وخير الغافرين".
____________
1- قال في البحار: أغصّني بريقي من الغصة بالضم، وهي الشجى في الحلق، وهي كناية عن كمال الخوف والاضطراب، أي صيّرني بحيث لا أقدر على أن أبلع ريقي، وقد وقف في حلقي.
2- راجع البحار 87: 237 ح47.
3- في "ب": ساعة.
الباب الثالث والثلاثون
في الخشوع لله سبحانه والتذلل له
قال الله تعالى: {قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون}(1)، ثم فسّرهم سبحانه بتمام الآية في سورة المؤمنين.
فنقول: الخشوع الخوف الدائم اللازم للقلب، وهو ايضاً قيام العبد بين يدي الله تعالى بهمّ مجموع، وقلب مروع، وروي انّه من خشع قلبه لم يقربه الشيطان، ومن علاماته غضّ العيون، وقطع علائق الشؤون.
والخاشع من خمدت نيران شهوته، وسكن دخان أمله، وأشرق نور عظمة الله في قلبه، فمات أمله، وواجه أجله، فحينئذ خشعت جوارحه، وسالت عبرته، وعظمت حسرته، والخشوع ايضاً يذلل البدن والقلب لعلاّم الغيوب، قال الله تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً}(2)، يعني المتواضعين الخاشعين.
____________
1- المؤمنون: 2-1.
2- الفرقان: 63.
دلّ هذا الحديث على انّ الخشوع من أفعال القلب، تظهر آثاره على الجوارح، وهو أيضاً ذبول القلوب عند استحضار عظمة الله تعالى، وهو من مقدمات الهيبة، ولا ينبغي للمرء أن يظهر من الخشوع فوق ما في قلبه، ومن الخشوع التذلل لله تعالى بالسجود على التراب، وكان الصادق عليه السلام لا يسجد إلاّ على تراب من تربة الحسين عليه السلام تذللاً لله تعالى واستكانة إليه(2).
وكان النبي صلى الله عليه وآله يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته، ويأكل مع العبيد، ويجلس على الأرض، ويركب الحمار ويردف، ولا يمنعه الحياء أن يحمل حاجة من السوق إلى أهله، ويصافح الغني والفقير، ولا ينزع يده من يد أحد حتّى ينزعها هو، ويسلّم على من استقبله من كبير وصغير وغني وفقير، ولا يحقر ما دعى إليه ولو إلى حشف التمر.
وكان خفيف المؤنة، كريم الطبيعة، جميل المعاشرة، طلق الوجه، بسّاماً(3) من غير ضحك، محزوناً من غير عبوس، متواضعاً من غير ذلّة، جواداً من غير سرف، رقيق القلب، رحيم بكل مسلم، ولم يتجشّأ من شبع قط، ولم يمد يده إلى طمع، وكفاه مدحاً قوله تعالى: {وانّك لعلى خلق عظيم}(4).
وأوحى الله إلى موسى عليه السلام: أتدري لم ناجيتك وبعثتك إلى خلقي؟ قال: لا يا رب، قال: لأنّي قلّبت عبادي واختبرتهم فلم أر أذلّ لي قلباً منك،
____________
1- راجع البحار 84: 266 ح67; عن دعائم الإسلام; كنز العمال 3: 144 ح5891.
2- عنه البحار 85: 158 ح 25.
3- في "ج": بشاشاً.
4- القلم: 4.
وينبغي للعاقل أن لا يرى لنفسه على أحد فضلاً، والعز في التواضع والتقوى، ومن طلبه في الكبر لم يجده. وروي انّ ملكي العبد الموكلين به ان تواضع رفعاه، وان تكبر وضعاه(2). والشرف في التواضع والعز في التقوى، والغنا في القناعة، وأحسن ما كان التواضع في الملوك والأغنياء، وأقبح ما كان التكبر في الفقراء.
وقد أمر الله تعالى نبيّه محمداً صلى الله عليه وآله بالعفو عن الناس، والاستغفار لهم والتواضع، بقوله تعالى: {ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم}(3).
وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: يا موسى ذكّر خلقي نعمائي، وأحسن إليهم وحبّبني إليهم، فانّهم لا يحبون إلاّ من أحسن إليهم.
____________
1- الكافي 2: 123 ح 7; عنه البحار 75: 129 ح 29 باختلاف.
2- الكافي 2: 122 ح 2.
3- آل عمران: 159.
الباب الرابع والثلاثون
في ذم الغيبة والنميمة وعقابها وحسن كظم الغيظ(1)
قال الله تعالى: {ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه}(2)، فقد بالغ سبحانه في النهي عن الغيبة، وجعلها شبه الميتة المحرّمة من لحم الآدميين.
وقال صلى الله عليه وآله: يأتي الرجل يوم القيامة وقد عمل الحسنات، فلا يرى في صحيفته من حسناته شيئاً، فيقول: أين حسناتي التي عملتها في دار الدنيا؟ فيقال له: ذهبت باغتيابك الناس فهي لهم عوض اغتيابهم(3).
وأوحى الله إلى موسى عليه السلام: من مات تائباً من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصرّاً عليها فهو أول من يدخل النار(4).
وروي انّه من اغتيب غفرت نصف ذنوبه. وروي انّ الرجل يعطى كتابه
____________
1- قوله "النميمة وعقابها وحسن كظم الغيظ" أثبتناه من "ب" و"ج".
2- الحجرات: 12.
3- عنه معالم الزلفى: 321; ونحوه في كنز العمال 3: 590 ح 8047.
4- عنه معالم الزلفى: 321; وفي مجموعة ورام 1: 116.
وقال بعضهم: لو اغتبت أحداً لم أكن لأغتاب إلاّ ولدي، لأنّهم أحق بحسناتي من الغريب.
وبلغ الحسن البصري انّ رجلاً اغتابه فأنفذ إليه بهدية، فقال له: والله ما لي عندك يد، فقال: بلى بلغني انّك تهدي لي حسناتك فأحببت أن اُكافيك، ومن اغتيب عنده أخوه المؤمن فلم ينصره فقد خان الله ورسوله.
وقال: إذا لم تنفع أخاك المؤمن فلا تضرّه، وإذا لم تسرّه فلا تغمّه، وإذا لم تدرجه بمدحة(2) فلا تذمّه.
وقال صلى الله عليه وآله: لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا يغتب بعضكم بعضاً، وكونوا عباد الله اخواناً(3).
وقال عليه السلام: اياكم والغيبة، فانّها أشد من الزنا، لأنّ الرجل يزنيفيتوب فيتوب الله عليه، وانّ صاحب الغيبة لا يغفر له إلاّ إذا غفرها صاحبها(4).
وقال صلى الله عليه وآله: مررت ليلة اُسري بي إلى السماء على قوم يخمشونوجوههم بأظفارهم، فسألت جبرئيل عليه السلام عنهم فقال: هؤلاء الذين يغتابون الناس(5).
وخطب صلى الله عليه وآله فذكر الربا وعظم خطره، وقال: الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم من سبعين زنية بذات محرم، وأعظم من ذلك عرض المسلم(6).
____________
1- راجع كنز العمال 3: 590 ح 8046 نحوه.
2- في "ب" و"ج": إذا لم تمدحه.
3- مجموعة ورام 1: 115.
4- مجموعة ورام 1: 115; الترغيب 3: 511.
5- مجموعة ورام 1: 115.
6- مجموعة ورام 1: 116.
ومرّ عيسى عليه السلام ومعه الحواريّون بكلب جائف، قالوا: ما أجيفه، فقال: ما هو، ما أبيض أسنانه(2)، يعني ما عوّد لسانه إلاّ على الخير.
والغيبة هو أن تذكر أخاك بما يكرهه لو سمعه، سواء ذكرت نقصاناً في بدنه أو نسبه أو خلقه أو فعله أو دينه أو دنياه حتّى في ثوبه، وقال عليه السلام: حد الغيبة أن تقول في أخيك ما هو فيه، فإن قلت ما ليس فيه فذاك بهتان، والحاضر في الغيبة ولم ينكرها شريك فيها، ومن أنكرها كان مغفوراً له.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: من ردّ عن عرض أخيه كان حقّاً على الله أن يعتقه من النار(3).
وقال صلى الله عليه وآله: طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس(4). ومنشأ الغيبة في الصدور الحسد والغضب، فإذا نفاهما الرجل عن نفسه قَلَّتْ غيبته للناس.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: انّ للنار باباً لا يدخله إلاّ من شفى غيظه(5).
وقال: من كظم غيظه وهو يقدر على إمضائه خيّره الله في أيّ الحور العين شاء أخذ منهنّ(6).
____________
1- الهمزة: 1.
2- مجموعة ورام 1: 117.
3- مجموعة ورام 1: 119.
4- مجموعة ورام 1: 120.
5- مجموعة ورام 1: 121.
6- مجموعة ورام 1: 121.
وللعاقل شغل فيما خلق له عن نفسه وماله وولده، فكيف عن أعراض الناس؟! وإذا كان اشتغال الإنسان بغير ذكر الله خسارة فكيف بالغيبة؟!.
وقال عليه السلام: وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم(2).
وكفى بذلك قوله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلاّ من أمر بصدقة أو معروف أو اصلاح بين الناس}(3)، فنفى الخير في المنطق(4) إلاّ في هذه الاُمور الثلاثة، فسبحانه ما أنصحه لعباده وأشفقه عليهم وأحبه لهم لو كانوا يعلمون.
واما النميمة فانّها أعظم ذنباً واكبر وزراً، لأنّ النمام يغتاب وينقلها إلى غيره فيغويه بأذى من ينقلها عنه، والنمام يثير الشرّ ويدلّ عليه، ولقد سدّ الله تعالى باب النميمة ومنع من قبولها بقوله: {ان جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}(5)، وسمّى النمام فاسقاً ونهى عن قبول قوله إلاّ بعد البيان والبيّنة أو الاقرار، وسمّى العامل بقوله جاهلاً.
وقال رجل لعلي بن الحسين عليهما السلام: انّ فلاناً يقول فيك ويقول، فقال له: والله ما حفظت حق أخيك إذ خنته وقد استأمنك، ولا حفظت حرمتنا إذ سمعتنا ما لم يكن لنا حاجة بسماعه، اما علمت انّ نَقَلَةَ النميمة هم كلاب النار، قل لأخيك: انّ الموت يعمّنا، والقبر يضمّنا، والقيامة موعدنا، والله يحكم بيننا(6).
____________
1- مجموعة ورام 1: 121; وأورده في أعلام الدين: 184.
2- الكافي 2: 115 ح 14; عنه البحار 71: 303 ح 78.
3- النساء: 114.
4- في "ج": النطق.
5- الحجرات: 6.
6- راجع الاحتجاج 2: 145; عنه البحار 75: 246 ح 8 باختلاف.
____________
1- لعلّه من الحَبرة بمعنى النعمة التامة كما في لسان العرب.
الباب الخامس والثلاثون
في القناعة ومصالحها(1)
جاء في تفسير قوله تعالى: {فلنحيينّه حياة طيّبة}(2) قال: يعطيه القناعة(3).
وجاء في تفسير قوله تعالى حكاية عن سليمان: {رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي}(4) قال: القناعة في بعض الوجوه، لأنّه كان يجلس مع المساكين ويقول: مسكيناً مع المساكين.
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: القناعة كنز لا يُفنى(5).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله لبعض أصحابه: كن ورعاً تكن أعبد الناس، وكن قنعاً تكن أشكر الناس، وحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً،
____________
1- قوله "مصالحها" أثبتناه من "ب".
2- النحل: 97.
3- نهج البلاغة: قصارالحكم 229.
4- ص: 35.
5- راجع كنز العمال 3: 389 ح 7080، وفيه: مال لا ينفد.
والناس أموات إلاّ من أحياه الله بالقناعة، وما سكنت القناعة إلاّ قلب من استراح، والقناعة ملك لا يسكن إلاّ قلب مؤمن، والرضى بالقناعة رأس الزهد، ومعناها السكون عند عدم المشتهيات، والرضى بقليل الأقوات، وترك التأسّف على ما فات.
وجاء في تأويل قوله تعالى: {ليرزقنّهم الله رزقاً حسناً}(2) قال: القناعة، لأنّ القناعة رضى النفس بما حضر من الرزق وان كان قليلاً، وقال بعضهم: انّ الغنى والعز خرجا يجولان فوجدا القناعة فاستقرّا.
وروي انّ علياً عليه السلام اجتاز بقصاب ومعه لحم سمين، فقال: يا أمير المؤمنين هذا اللحم سمين اشتر منه، فقال: ليس الثمن حاضراً، فقال: أنا أصبر يا أمير المؤمنين، فقال له: أنا أصبر عن اللحم.
وانّ الله سبحانه وضع خمسة في خمسة:
العز في الطاعة، والذل في المعصية، والحكمة في خلوّ البطن، والهيبة في صلاة الليل، والغنى في القناعة.
وفي الزبور: القانع غني ولو جاع وعرى، ومن قنع استراح من أهل زمانه، واستطال على أقرانه.
وجاء في قوله تعالى: {فك رقبة * أو اطعام في يوم ذي مسغبة}(3) قال: فكّها من الحرص والطمع، ومن قنع فقد اختار العز على الذل، والراحة على التعب.
____________
1- الترغيب والتذهيب 2: 560 ح13; وقطعة منه في مجموعة ورام 1: 163.
2- الحج: 58.
3- البلد: 13 - 14.
[حكاية داود مع متى](1)
قيل: انّ داود عليه السلام قال: رب أخبرني بقريني في الجنة في قصري، فأوحى الله إليه انّ ذلك متّى أبو يونس، فاستأذن الله تعالى في زيارته فأذن له، فأخذ بيد ولده سليمان عليهما السلام حتّى أتيا موضعه، فإذا هما ببيت من سعف، فسألا عنه فقيل: انّه في الحطّابين يقطع(2) الحطب ويبيعه.
فجلسا ينتظرانه إذ أقبل وعلى رأسه حزمة حطب، فألقاها عنه ثم حمد الله وقال: من يشتري منّي طيّباً بطيّب، فساومه واحد واشتراه آخر، فدنيا منه وسلّما عليه، فقال: انطلقا بنا إلى المنزل، وابتاع بما كان معه طعاماً، ثم وضعه بين حجرين قد أعدهما لذلك، وطحنه ثم عجنه في نقير له، ثم أجّج ناراً وأوقدها بالحطب، ثم وضع العجين عليها، ثم جلس يحدث(3) معهم هنيئة.
ثم نهض وقد نضجت خبزته، فوضعها في النقير وفلقها، ووضع عليها ملحاً ووضع إلى جانبه مطهرة فيها ماء، وجلس على ركبتيه وأخذ لقمة وكسرها ووضعها في فيه وقال: بسم الله الرحمن الرحيم، فلمّا ازدردها قال: الحمد لله رب العالمين.
ثم فعل ذلك باُخرى واُخرى، ثم أخذ الماء فشرب منه وحمد الله تعالى وقال: لك الحمد يا رب، من ذا الذي أنعمت عليه وأوليته مثل ما أوليتني، إذ أصححت بدني وسمعي وبصري وجوارحي، وقوّيتني حتّى ذهبت إلى شجر لم أغرسه بيدي، ولا زرعته بقوّتي، ولم أهتمّ بحفظه، فجعلته لي رزقاً، وأعنتني على قطعه وحمله، وسقت لي من اشتراه منّي، واشتريت بثمنه طعاماً لم أزرعه ولم أتعنّى(4) فيه،
____________
1- أثبتناه من "ب".
2- في "ب": يقلع.
3- في "ب" و"ج": يتحدث.
4- في "ج": أتعب.
ثم بكا بكاءً عالياً، فقال داود عليه السلام لابنه سليمان: يا بني يحق لمثل هذا العبد الشاكر أن يكون صاحب المنزلة الكبرى في الجنة، فلم أر عبداً أشكر من هذا(1).
____________
1- مجموعة ورام 1: 18و19; عنه البحار 14: 402 ح 16.