الباب السادس والثلاثون
في التوكل على الله تعالى
قال الله تعالى: {وعلى الله فتوكّلوا ان كنتم مؤمنين}(1).
وقال: {وعلى الله فليتوكّل المتوكّلون}(2).
وقال: {ومن يتوكّل على الله فهو حسبه}(3).
وقال: {انّ الله يحب المتوكّلين}(4).
فأعظم مقام موسوم بعظمة الله وبمحبة الله المتوكل عليه، لأنّه مضمون بكفاية الله، لأنّ من يكن الله حسبه وكافيه ومحبه ومراعيه فقد فاز فوزاً عظيماً، وقد قال: {أليس الله بكاف عبده}(5)، فطالب الكفاية بغيره غير طالب التوكل، ومكذّب بالآية.
____________
1- المائدة: 23.
2- ابراهيم: 12.
3- الطلاق: 3.
4- آل عمران: 159.
5- الزمر: 36.
وقال: {ومن يتوكل على الله فإنّ الله عزيز حكيم}(2)، أيْ عزيز لا يذل من استجار به، ولايضيع من لجأ إليه، حكيم لا يقصر عن تدبير من اعتصم به.
وعيّر من لجأإلى غيره فقال: {انّ الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم}(3)، يعني عاجزون عن حوائجكم، أنتم وهم محتاجون إلى الله تعالى فهو أحق أن تدعوه، وكلّما ذكر سبحانه من التوكل عليه عنى به قطع الملاحظة إلى خلقه والانقطاع إليه.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لو انّ العبد يتوكل على الله حق توكّله لجعله كالطير تغدوا خماصاً وتروح بطاناً، ومن انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤونة، ومن انقطع إلى الدنيا وكّله الله إليها، ومن أراد أن يرزقه الله من حيث لا يحتسب فليتوكل على الله(4).
وأوحى الله إلى داود: ما من عبد يعتصم بي دون خلقي وتكيده السماوات(5)والأرض الا جعلت له مخرجاً(6).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: أيّها الناس لا يشغلكم المضمون من الرزق عن المفروض عليكم من العمل، والمتوكل لا يسأل ولا يرد ولا يمسك شيئاً خوف الفقر.
وينبغي لمن أراد سلوك طريق التوكل أن يجعل نفسه بين يدي الله تعالى فيما يجري عليه من الاُمور كالميت بين يدي الغاسل يقلّبه كيف يشاء، كما قال النبي صلى
____________
1- الطلاق: 3.
2- الانفال: 49.
3- الأعراف: 194.
4- مجموعة ورام 1 222 نحوه.
5- في "ج": أهل السماوات.
6- مجموعة ورام 1: 222.
والتوكل هو الاعتصام بالله كما قال جبرئيل عليه السلام لابراهيم عليه السلام وهو في كفّة المنجنيق: ألك حاجة يا خليل الله؟ فقال: إليك لا، اعتماداً على الله ووثوقاً به في النجاة، فجعل الله تعالى عليه النار برداً وسلاماً، وأرضها وروداً وثماراً، ومدحه الله فقال: {وابراهيم الذي وفى}(1). وما استوى حاله وحال يوسف في قوله للّذي معه في السجن: {اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربّه فلبث في السجن بضع سنين}(2).
وقال لي رجل: من أين مؤنتك؟ فقلت: {ولله خزائن السماوات والأرض ولكنّ المنافقين لا يفقهون}(3).
ورأى بعضهم شيخاً(4) في البريّة يعبد الله تعالى فقال: من أين قوتك؟ فقال: من تدبير العزيز العليم، ثم أومىء إلى أسنانه وقال: الذي خلق الرحى هو يأتيها بالهشل(5)، يعني الحب.
واعلموا انّ التوكل محلّه القلب، والحركة في الطلب لا تنافي التوكل، لأنّ الله تعالى أمر بها بقوله: {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور}(6)، ولما دخل الأعرابي إلى مسجد النبي صلى الله عليه وآله فقال: أعقلت ناقتك؟ قال: لا قد توكلت [على الله](7)، فقال: أعقلها وتوكل.
____________
1- النجم: 37.
2- النجم: 37.
3- المنافقون: 7.
4- في "ج": شخصاً.
5- في "ب": بالعلس.
6- الملك: 15.
7- أثبتناه من "ج".
ومن الكذب أن يقول الرجل: توكلت على الله وفي قلبه غيره، أو يكون غير راض بصنعه إليه، لأنّ التوكل الاستسلام إلى الله والانقطاع إليه دون خلقه، فحقيقته الاكتفاء بالله تعالى والاعتماد عليه.
فللمتوكل(2) ثلاث درجات: الانقطاع إلى الله، والتسليم إليه، والرضى بقضائه، فهو يسكن إلى وعده، ويكتفي بتدبيره، ويرضى بحكمه.
وقيل لبعضهم: لِمَ تركت التجارة؟ فقال: وجدت الكفيل ثقة.
وروي انّ الله تعالى يقول: من اعتصم بي دون خلقي ضمنت السماوات والأرض رزقه، فإن دعاني أجبته، وان استعطاني أعطيته، وان استكفاني كفيته، ومن اعتصم بمخلوق دوني قطعت أبواب(3) السماوات والأرض دونه، ان دعاني لم أجبه، وان سألني لم أعطه، وان استكفاني لم أكفه.
وقال محمد بن عجلان: نَزَلَت بي فاقة عظيمة، ولزمني دين لغريم ملح وليس لمضيقي صديق، فوجهت(4) فيه إلى الحسن بن زيد - وكان أمير المدينة - لمعرفة كانت بيني وبينه، فلقيني في طريقي محمد بن عبد الله بن الباقر عليه السلام، فقال: قد بلغني ما أنت فيه من الضيق فمن أملت لمضيقك؟
قلت: الحسن بن زيد، فقال: اذن لا تقضى حاجتك، فعليك بمن هو أقدر الأقدرين وأكرم الأكرمين، فانّي سمعت عمي جعفر بن محمد عليهما السلام يقول: أوحى الله إلى بعض أنبيائه في بعض وحيه:
____________
1- النساء: 71.
2- في "ب": فللتوكل.
3- في "ب" و"ج": أسباب.
4- في "ج": فتوجهت.
قال: فقلت له: أعد علىّ هذا الكلام، فعاد ثلاث مرّات فحفظته وقلت في نفسي: لا والله لا أسأل أحداً حاجة، ثم لزمت بيتي فما لبثت أيّاماً إلاّ وأتاني الله برزق، قضيت منه ديني، وأصلحت به أمر عيالي، والحمد لله رب العالمين(2).
____________
1- في "ب": روحي.
2- راجع أمالي الطوسي: 584 ح13 مجلس: 24; عنه البحار 71: 154 ح 67; ونحوه مجموعة ورام 2: 73.
الباب السابع والثلاثون
في الشكر وفضل الشاكرين
قال الله تعالى: {واشكروا لي ولا تكفرون}(1).
وقال الله سبحانه: {لئن شكرتم لأزيدنّكم}(2).
وقال: {ومن يشكر فانّما يشكر لنفسه ومن كفر فإنّ الله غني حميد}(3)، يريد به الجحود لنعمته، وحقيقة الشكر الاعتراف بنعمة المنعم.
وأوحى الله إلى داود عليه السلام: اشكرني حق شكري، فقال: الهي كيف أشكرك حق شكرك، وشكري اياك نعمة منك؟! فقال: الآن شكرتني حق شكري(4).
وقال داود: يا رب وكيف كان آدم يشكرك حق شكرك، وقد جعلته أبا أنبيائك وصفوتك، وأسجدت له ملائكتك؟! فقال: انّه اعترف انّ ذلك من عندي
____________
1- البقرة: 152.
2- ابراهيم: 7.
3- لقمان: 12.
4- عنه البحار 14: 40 ح 25.
وينبغي للعبد أن يشكر على البلاء كما يشكر على الرخاء، وروي انّ الله سبحانه قال: يا داود انّي خلقت الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضّة، وجعلت سقوفها الزمرد، وطليها(2) الياقوت، وترابها المسك الأذفر، وأحجارها الدر واللؤلؤ، وسكّانها الحور العين، أتدري يا داود لمن أعددت هذا؟ قال: لا وعزتك يا الهي، فقال: هذا أعددته لقوم كانوا يعدّون البلاء نعمة، والرخاء مصيبة(3).
ولا شك انّ البلاء من الأمراض وغيرها يوجب العوض على الألم والثواب على الصبر عليه، ويكفّر السيئات، ويذكر بالنعمة أيّام الصحة، ويحث على التوبة والصدقة، وهو اختيار الله تعالى للعبد، وقد قال سبحانه: {ويختار ما كان لهم الخيرة}(4).
عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام قال: مثل المؤمن مثل كفتي الميزان، كلما زيد في ايمانه زيد في بلائه ليلقى الله عزوجل ولا خطيئة له(5).
والنعم قد تكون استدراجاً فتكون أعظم المصائب، وان لم تكن استدراجاً فانّها توجب الشكر، والشكر أيضاً نعمة توجب الاعتراف بالتقصير، ولا شك انّ زيادة النعم وكثرتها ملهية عن الله تعالى، ولهذا اختار لأوليائه وعباده الصالحين الفقر، وحبس الدنيا عنهم لأنّه قال في بعض وحيه:
"وعزتي وجلالي لولا حيائي من عبدي المؤمن ما تركت له خرقة يواري بها جسده، وانّي إذا أكملت ايمان عبدي المؤمن أبليته بفقر الدنيا في ماله أو مرض في
____________
1- عنه البحار 14: 40 ح 25.
2- في "ج": طينها.
3- عنه معالم الزلفى: 433.
4- القصص: 68.
5- أمالي الطوسي: 631 ح1 مجلس: 25; عنه البحار 67: 243 ح 82.
وتمام [هذا](1) الحديث: "انّي جعلت علياً علماً للايمان، فمن أحبه واتبعه كان هادياً، ومن تركه وأبغضه كان ضالاً، وانّه لا يحبه إلاّ مؤمن، ولا يبغضه إلاّ منافق"(2).
ومن شكر النعمة أن لا يتقوى به أحد على معصية الله تعالى، وشكر العوام على المطعم والملبس، وشكر الخواص على ما يختاره سبحانه من بأساء وضرّاء ومنع(3) غيره.
وروي انّ الصادق عليه السلام قال لشقيق: كيف أنتم في بلادكم؟ فقال: بخير يا ابن رسول الله، ان اُعطينا شكرنا، وان مُنعنا صبرنا، فقال له: هكذا كلاب حجازنا يا شقيق، فقال له: كيف أقول: فقال له: هلا كنتم إذا اُعطيتم آثرتم، وإذا مُنعتم شكرتم. وهذه درجته ودرجة آبائه عليهم السلام.
وروي انّ سبب رفع ادريس إلى السماء انّ ملكاً بشّره بالقبول والمغفرة فتمنّى الحياة، فقال له الملك: لم تمنّيت الحياة؟ قال: لأشكر الله تعالى، فقد كانت حياتي لطلب القبول وهي الآن لبلوغ المأمول، قال: فبسط الملك جناحه ورفعه إلى السماء(4).
والشاكر يلاحظ المزيد لقوله تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنّكم}(5)، والصابر مشاهد(6) ثواب البلاء، فهو مع الله لقوله تعالى: {انّ الله مع الصابرين}(7)، فهو
____________
1- أثبتناه من "ب".
2- راجع البحار 81: 195 ح 52.
3- لم يرد في "ج".
4- عنه معالم الزلفى: 80.
5- ابراهيم: 7.
6- في "ج": يشاهد.
7- البقرة: 153.
وروي انّ اول من يدخل الجنة الحامدون، وعلى كل حال فله الحمد على ما دفع(1)، وله الشكر على ما يقع(2)، وروي انّ الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: يا موسى ارحم عبادي المبتلى منهم والمعافى، قال: يا رب قد عرفت رحمة المبتلي فما بال المعافى؟ قال: لقلّة شكره.
وقوله تعالى: {وان تعدّوا نعمة الله لا تحصوها}(3) أي لا تقوموا بشكرها كلها، وذلك صحيح لأنّ في اللحظة الواحدة ينظر الإنسان نظرات لا تحصى، وتسمع اُدنه حروفاً لا تُحصى، ويتكلّم بلسانه بحروف لا تحصى، وتسكن منه عروق لا يعلم عددها، وتتحرّك منه عروق لا يعلم عددها، ويتنفّس بأنفاس لا تحصى، ويتناول من الهوى أنفاساً لا تحصى، وكذلك تتحرّك جوارحه بحركات كثيرة، فهذا في اللحظة الواحدة فكيف في يومه وسنته وطول عمره؟! صدق الله العلي العظيم.
____________
1- في "ب": ما وقع.
2- في "ج": نفع.
3- ابراهيم: 34.
الباب الثامن والثلاثون
في مدح الموقنين
قال الله تعالى: {والذين يؤمنون بما اُنزل إليك وما اُنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون}(1).
فمدح الموقنين بالاخرة يعني المطمئنّين بما وعد الله فيها من ثواب وتوعد من عقاب، كأنّهم قد شاهدوا ذلك، كما روي انّ سعد بن معاذ دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله فقال صلى الله عليه وآله: كيف أصبحت يا سعد؟ فقال: بخير يا رسول الله، أصبحت بالله مؤمناً موقناً، فقال: يا سعد انّ لكل قول حقيقة، فما مصداق ما تقول؟
فقال: يا رسول الله ما أصبحت فظننت انّي اُمسي، ولا أمسيت فظننت أنْ اُصبح، ولا مددت خطوة فظننت انّي اُتبعها باُخرى، وكأنّي بكل امة جاثية، وكل امة معها كتابها ونبيّها وامامها تدعى إلى حسابها، وكأنّي بأهل الجنة وهم يتنعّمون، وبأهل النار وهم يعذّبون، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: يا سعد عرفت
____________
1- البقرة: 4.
فلما صح يقينه كالمشاهدة أمره باللزوم، واليقين هو مطالعة أحوال الآخرة على سبيل المشاهدة، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً. فدل على انّه مشاهد(1) الآخرة مع الغيب عنها.
وقال عليه السلام: ما منكم إلاّ ومن قد عاين الجنة والنار ان كنتم تصدقون بالقرآن. وصدق عليه السلام لأنّ اليقين بالقرآن يقين بكل ما تضمّنه من وعد ووعيد، وهو أيضاً في قلب العارف كالعلم البديهي الذي لا يندفع، ولأجل هذا منعنا من انّ المؤمن يكفر بعد المعرفة.
فإن عارض أحد بقوله تعالى: {انّ الذين آمنوا ثم كفروا}(2) قلنا: آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم كما قال تعالى: {قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا}(3)، فالاسلام نطق باللسان، والايمان نطق باللسان واعتقاد بالقلب، فلما علم سبحانه انّه لم يعتقدوا ما نطقوا به حقاً نفى عنهم انّهم مؤمنون.
فأوّل مقامات الايمان المعرفة ثم اليقين ثم التصديق ثم الاخلاص ثم الشهادة بذلك كلّه، والايمان اسم لهذه الاُمور كلّها، فأوّلها النظر بالفكر في الأدلّة ونتيجته المعرفة، فإذا حصلت لزم التصديق، وإذا حصل التصديق والمعرفة أنتجا اليقين، فإذا صحّ اليقين جالت أنوار السعادة في القلب بتصديق ما وعد به من رزق في الدنيا وثواب في الآخرة، وخشعت الجوارح من مخافة ما توعد من العقاب، وقامت بالعمل والزجر عن المحارم.
وحاسب العقل النفس على التقصير في الذكر والتنبيه على الفكر، فأصبح صاحب هذه الحال نطقه ذكراً، وصمته فكراً، ونظره اعتباراً، واليقين يدعو إلى قصر
____________
1- في "ج": يشاهد.
2- النساء: 137.
3- النساء: 137.
وعلى قدر يقين العبد يكون اخلاصه وتقواه، وهذه الأحوال الصحيحة توجب لصاحبها حالاً لا يراها بين اليقظة والنوم، ويحصل باليقين ارتفاع معارضات الوساوس النفسانية لأنّه رؤية العيان بحقائق الايمان.
وهو أيضاً ارتفاع الريب بمشاهدة الغيب، وهو سكون النفس دون جولان الموارد، ومتى استكمل القلب حقائق اليقين صار البلاء عنده نعمة، والرخاء مصيبة حتّى انّه يستعذب البلاء، ويستوحش لمطالعة العافية.
____________
1- هود: 75.
الباب التاسع والثلاثون
في الصبر وفضله
قال الله تعالى: {واصبر وما صبرك إلاّ بالله}(1).
وقال سبحانه: {واصبر على ما أصابك}(2).
وقال الله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة}(3). فجعل الصبر معونة على الصلاة، بل هو معونة على كل طاعة، وترك كل معصية وبليّة.
وقال سبحانه: {وبشّر الصابرين}(4) يعنى بعظيم الثواب وحسن الجزاء، وأوجب صلاته ورحمته عليهم، فقال: {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا انّا لله وانّا إليه راجعون * اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون}(5).
وقال سبحانه: {سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}(6).
____________
1- النحل: 127.
2- لقمان: 17.
3- البقرة: 45.
4- البقرة: 155.
5- البقرة: 155.
6- الرعد: 24.
وقال علي عليه السلام: الصبر مطية لا تكبوا بصاحبها(1).
والصبر على المصيبة مصيبة للشامت، ولا شك انّ الصابر محرز أجرها، ويكبت عدوّه بصبره، ويسلم من ضرر الجزع بشق ثوب أو ألم في بدنه، والجازع يدخل عليه بجزعه ثلاث آفات: يحبط أجره، ويشمت عدوّه، ويدخل الضرر على نفسه بما يلحقه من الألم، وصبر الصابر مصيبة للشامت.
وينبغي للعاقل أن تحدث له المصيبة موعظة، لأنّ من الجائز أن يكون موضع المفقود، فهو أحق بالحمد لله والثناء عليه، ويحدث في نفسه الاستعداد بمثل ما نزل بغيره من موت أو بلية يستدفعها بالدعاء.
وينبغي للانسان أن يطمئنّ قلبه ونفسه على البلايا والرزايا العظيمة حتّى إذا نزل به قليلها عدّه نعمة في جنب غيره، وأحسن مقامات الإنسان أن ينظر في المصائب و البلايا وضيق المعاش والفاقة والفقر إلى من هو أكبر منه بليّة، فيصير حاله عنده نعمة.
وينظر في عمل الخير إلى من هو فوقه، فيستقلّ عمله ويزري على نفسه، ويحثّها على اللحاق بمن هو فوقه في صالح العمل، وهكذا يكون من يريد صلاح(2)نفسه، وعظيم صبره، وقلّة همّه وغمّه.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا ايمان لمن لا صبر له(3).
____________
1- كنز الكراجكي: 58; عنه البحار 71: 96 ح 61.
2- في "ب": اصلاح.
3- الكافي 2: 89 ح4; عنه البحار 71: 81 ح17; وكنز الكراجكي: 58.
وقال: اصبروا على عمل لا غنى لكم عن ثوابه، واصبروا عن عمل لا طاقة لكم على عقابه(2).
وحقيقة الصبر تجرّع الغصص عند المصائب، واحتمال البلايا والرزايا، وغاية الصبر أن لا يفرق بين النعمة والمحنة، ويرجح المحنة على النعمة للعلم بحسن عاقبتها، والصبر(3): السكون عند البلاء مع تحمّل أثقال المحنة عند عظمها.
قال المصنف رحمة الله عليه:
صبرت ولم اُطلع هواي على صبري | وأخفيت ما بي منك عن موضع الصبر |
مخافة أن يشكو ضميري صبابتي | إلى دمعتي سرّاً فتجري ولا أدري |
قيل: أوحى الله إلى داود عليه السلام: تخلّقوا(4) بأخلاقي، فإنّ من أخلاقي انّي أنا الصبور، والصابر ان مات مع الصبر مات شهيداً، وان عاش عاش عزيزاً، واعلموا انّ الصبر على المطلوب عنوان الظفر، والصبر في المحن عنوان الفرج.
وقد مدح الله سبحانه عبده أيوب: {انّا وجدناه صابراً نعم العبد انّه أوّاب}(5).
وروي انّه لما اشتد به البلاء قالت له امرأته يوماً: انّ دعاء الأنبياء مستجاب فلو سألت الله كَشْف ما بك، فقال لها: يا هذه قد متّعنا الله بالنعم سبعين سنة، فدعينا نصبر على بلائه مثل ذلك.
وروي انّه لما جاءت امرأته إليه وقد باعت أحد ظفائرها لقوته شقّ عليه
____________
1- عنه مستدرك الوسائل 11: 261 ح 12938; وفي البحار 77: 380.
2- عنه مستدرك الوسائل 11: 261 ح 12939; وفي البحار 77: 380.
3- في "ج": التصبر.
4- في "ج": تخلّق.
5- ص: 44.
فقال: اللهم لك، اللهم لك، وصار يحثو التراب على رأسه ويبكي ويقول: اللهم لك، اللهم لك، فجاءه النداء: {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب}(1)، فركض برجله فنبعت عين عظيمة، فاغتسل منها فخرج وجسمه كاللؤلؤة البيضاء، وجاء جراد كلّه ذهب فصاده هو وأهله، وأحيى الله تعالى له من مات من ولده وأهله، ورزقه من النساء اللاتي تزوجهنّ أولاداً كثيرة، كما قال تعالى: {ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منّا وذكرى لاُولي الألباب}(2).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: الصبر نصف الايمان، واليقين الايمان كله، ومن صبر على المصيبة حتّى يردّها بحسن العزاء كتب الله له بكل صبرة ثلاثمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى علوّ العرش.
ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش(3)، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش(4).
____________
1- ص: 42.
2- ص: 43.
3- في "ب": إلى السماء.
4- مجموعة ورام 1: 40.