الباب الرابع
[في ترك الدنيا](1)
روي عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال: انّ الناس في الدنيا ضيف وما في أيديهم عارية، وانّ العارية مردودة، وانّ الضيف راحل، ألا وانّ الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر، والآخرة وعد صادق يحكم فيه ملك عادل قاهر، فرحم الله من نظر لنفسه، ومهّد لرمسه، وحبله على عاتقه ملقىً قبل أن ينفذ أجله، وينقطع أمله، ولا ينفع الندم(2).
وقال الحسن(3) عليه السلام: من أحب الدنيا ذهب خوف الآخرة من قلبه، ومن ازداد حرصاً على الدنيا لم يزدد منها الاّ بعداً، وازداد هو من الله بغضاً، والحريص الجاهل والزاهد القانع كلاهما مستوف أكله، غير منقوص من رزقهم شيئاً، فعلام التهافت في النار(4).
____________
1- أثبتناه من "ب" و"ج".
2- راجع البحار 77:189ضمن حديث 10.
3- في "ب": الحسين بن علي عليهما السلام.
4- الى هنا في مجموعة ورام 2:218.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري: عظني، فكتب إليه: انّ رأس ما يصلحك الزهد في الدنيا، والزهد باليقين، واليقين بالفكر، والفكر هو الاعتبار، فإذا فكّرت في الدنيا لم تجدها أهلاً لأن تنفع نفسك بجميعها فكيف ببعضها، ووجدت نفسك أهلاً أن تكرمها بهوان الدنيا.
واذكر قول الله تعالى: {وكلّ انسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً}(2) فلقد عدل عليك مَنْ جعلك حسيباً على نفسك حيث قال(3): {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً}(4).
وقال: لقد صحبت في الدنيا أقواماً كانوا والله قرّة عين، وكلامهم شفاء الصدور، وكانوا والله في الحلال أزهد منكم في الحرام، وكانوا على النوافل أشد محافظة منكم على الفرائض، وكانوا والله من حسناتهم ومن أعمالهم الحسنة مخافة أن ترد عليهم أكثر وجلاً من أعمالكم السيّئة أن تعذّبوا بها.
وكانوا والله من حسناتهم أن تظهر(5) أشد خوفاً منكم من سيّئاتكم أن تشهر(6)، وكانوا يسترون حسناتهم كما تسترون أنتم سيّئاتكم، وكانوا محسنين
____________
1- في "ب" و"ج": كثيرة.
2- الاسراء: 13.
3- في "ب" و"ج": لقوله تعالى.
4- الاسراء: 14.
5- في "ب": يظهروا.
6- في "ب": تشهدوا.
ظهر الجفاء(1)، وقلّت العلماء، وعفت السنّة، وهجر الكتاب، وشاعت البدعة، وتعامل الناس بالمداهنة، وتقارضوا الثناء، وذهب الناس وبقي حثالة من الناس، يوشك أن تدعوا فلا تجابوا، وتظهر عليكم أيدي المشركين فلا تغاثوا.
فأعدّوا الجواب فانّكم مسؤولون، والله لو تكاشفتم ما تدافنتم، فاتقوا الله وقدموا فضلاً(2)، فإنّ من كان قبلكم كانوا يأخذون من الدنيا بلاغهم، ويؤثرون بفضل ذلك اخوانهم المؤمنين، ومساكينهم وأيتامهم وأراملهم، فانتبهوا من رقدتكم فإنّ الموت فضح الدنيا، ولم يجعل الله لذي عقل فرحاً(3).
واعلموا أنّه من عرف ربّه أحبّه فأطاعه، ومن عرف عدوّه(4) الشيطان عصاه، ومن عرف الدنيا وغدرها بأهلها مقتها(5)، وانّ المؤمن ليس بذي لهو ولا غفلة وانّما همّه التفكر والاعتبار، وشعاره الذكر قائماً وقاعداً وعلى كلّ حال.
نطقه ذكر، وصمته فكر، ونظره اعتبار، لأنّه يعلم انّه يصبح ويمسي بين أخطار ثلاثة: امّا بليّة نازلة، أو نعمة زائلة، أو منيّة قاضية، ولقد كدّر ذكر الموت عيش كلّ عاقل، فعجباً لقوم نودي فيهم بالرحيل وهم غافلون عن التزوّد، ولقد علموا انّ لكل سفر زاداً لابد منه، حبس أوّلهم عن آخرهم وهم لاهون ساهون.
وروي في قوله تعالى: {وآتيناه الحكم صبيّاً}(6) عن يحيى عليه السلام انّه كان له سبع سنين، فقال له الصبيان: امض معنا نلعب، فقال: ليس للّعب خلقنا.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام في قوله تعالى: {ولا تنس نصيبك من
____________
1- في "ج": المخالفون.
2- في "ب" و"ج": فضلكم.
3- في "ج": فسحاً.
4- في "ب" و"ج": عداوة.
5- في "ج": زهد فيها.
6- مريم: 12.
وقال آخرون: هو الكفن من جميع ما يملك، أي لا تنس انّه هو نصيبك من الدنيا كلّه لو ملكتها.
وقال علي بن الحسين عليه السلام: أعظم الناس قدراً من لم يبال الدنيا في يد من كانت.
وقال محمد بن الحنفيّة: من كرمت نفسه عليه هانت الدنيا عنده(4).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا يزداد الزمان الاّ شدّة، والعمر الاّ نقصاناً، والرزق الاّ قلّة، والعلم الاّ ذهاباً، والخلق الاّ ضعفاً، والدنيا الاّ ادباراً، والناس الاّ شحّاً، والساعة الاّ قرباً، تقوم على الاشرار من الناس.
وقال: كان الكنز الذي تحت الجدار: عجباً لمن أيقن بالموت كيف يفرح، وعجباً لمن أيقن بالرزق كيف يحزن، وعجباً لمن أيقن بالحساب(5) كيف يذنب، وعجباً لمن عرف الدنيا وتقلّبها بأهلها كيف يطمئنّ إليها.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا أحبّ الله عبداً ابتلاه، وإذا أحبّه الحبّ البالغ افتناه، فقالوا: وما معنى افتناه؟ قال: لا يترك له مالاً ولا ولداً(6).
وانّ الله تعالى يتعهّد عبده المؤمن في نفسه وماله بالبلاء كما تتعهّد الوالدة ولدها باللبن، وانّه ليحمي عبده المؤمن من الدنيا كما يحمي الطبيب المريض من
____________
1- القصص: 77.
2- في "ج": شبابك.
3- مجموعة ورام 2:219; معاني الأخبار: 325.
4- مجموعة ورام 1:77نحوه.
5- في "ج": بالنار.
6- البحار 81:188ح45; عن دعوات الراوندي.
وكان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: اللهم انّي أسألك سلواً عن الدنيا ومقتاً لها، فإنّ خيرها زهيد، وشرّها عتيد، وصفوها يتكدّر، وجديدها يخلق، وما فات فيها لم يرجع، وما نيل منها فتنة الاّ من أصابته منك عصمة وشملته منك رحمة، فلا تجعلني ممّن رضي بها واطمأنّ إليها ووثق بها، فإنّ من اطمأنّ إليها خانته، ومن وثق بها غرّته.
ولقد أحسن من وصفها بقوله:
ربّ ريح لاُناس عصفت | ثم ما لبثت إلى أن سكنت |
وكذاك الدهر في أطواره | قدم زلّت واُخرى ثبتت |
وكذا الأيّام من عاداتها | انّها مفسدة ما أصلحت |
[وقال غيره:](2)
لا تحزننّ(3) على الدنيا وما فيها | واحزن على صالح لم تكتسب فيها |
[وقال آخر:](4)
واذكر ذنوباً عظاماً منك قد سلفت | نسيت أكثرها والله محصيها |
وفي قوله تعالى: {كم تركوا من جنّات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوماً آخرين * فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين}(5) عبرة.
وقال بعضهم: مررت بخربة فأدخلت فيها رأسي وقلت:
____________
1- مجموعة ورام 1:86.
2- أثبتناه من "ب" و"ج".
3- في "ب" و"ج": تحرصنّ.
4- أثبتناه من "ج".
5- الدخان: 24-29.
ناد ربّ الدار ذا المال الذي | جمع الدنيا بحرص ما فعل؟! |
فأجابه هاتف من الخربة يقول:
كان في دار سواها داره | علّلته بالمنى حتّى انتقل(1) |
وقال قتاده في قوله تعالى: {وقد خلت من قبلهم المثلات}(2) قال: وقائع القرون الماضيه، وما حلّ بها من خراب الديار وتعفية الآثار.
ومرّ الحسن عليه السلام بقصر أوس فقال: لمن هذا؟ فقالوا: لاُوس، فقال: ودّ أوس انّ له في الآخرة بدله رغيفاً(3).
وقال أبو العتاهيّة:
جمعوا فما أكلوا الذي جمعوا | وبنوا مساكنهم فما سكنوا |
وكأنّهم كانوا بها ظعناً | لمّا استراحوا ساعة ظعنوا |
وقال مسروق: ما امتلأت دار حبرة الاّ امتلأت عبرة، وأنشد [عند ذلك يقول:](4)
كم ببطن الأرض ثاو من وزير وأمير | وصغير الشأن عبد خامل الذكر حقير |
لو تأمّلت قبور القوم في يوم قصير | لم تميّزهم ولم تعرف غنيّاً من فقير |
وروي انّ سعد بن أبي وقّاص لما ولي العراق دعا حرقة(5) ابنة النعمان، فجاءت في لمّة من جواريها، فقال لهنّ: أيّتكنّ حرقة؟ قلن: هذه، فقالت: نعم، فما استنذارك(6) ايّاي يا سعد؟ فوالله ما طلعت الشمس، وما شيء يدبّ تحت
____________
1- مجموعة ورام 2:220.
2- الرعد:6.
3- مجموعة ورام 1:70.
4- أثبتناه من "ب".
5- في "ب": خرقة.
6- في "ب" و"ج": استبداؤك.
فبينا نسوق الناس والأمر أمرنا | إذا نحن فيها سوقة نتنصّف |
فاُفٍّ لدنيا لا يدوم سرورها | تقلّب بنا ثاراتها وتصرف |
هم الناس ما ساروا يسيرون حولنا | وان نحن أومأنا إلى الناس أوقفوا |
ثم قالت: انّ الدنيا دار فناء وزوال لا تدوم على حال، تنتقل بأهلها انتقالاً، وتعقبهم بعد حال حالاً، ولقد كنّا ملوك هذا القصر يطيعنا أهله، ويجبوا إلينا دخله فأدبر الأمر وصاح بنا الدهر، فصدع عصانا، وشتّت شملنا، وكذا الدهر لا يدوم لأحد، ثم بكت فبكى لبكائها، وأنشد:
انّ للدهر صولة فاحذريها | لا تقولين قد أمنت الدهورا |
قد يبيت الفتى معافاً فيؤذى | ولقد كان آمناً مسرورا |
فقال لها: اذكري حاجتك، فقالت: بنوا النعمان وأهله أجزهم على عوائدهم، فقال لها: اذكري حاجتك لنفسك خاصّة، فقالت: يد الأمير بالعطيّة أطلق من لساني بالمسألة، فأعطاهم وأعطانا(3) وأجزل.
فقالت: شكرتك يد افتقرت بعد غنى، ولا ملكتك يد استغنت بعد فقر، وأصاب الله بمعروفك مواضعه، ولا جعل الله لك إلى اللئيم حاجة، ولا أخذ الله من كريم نعمة الاّ وجعل لك السبب في ردها إليه، فقال سعد: اكتبوها في ديوان الحكمة، فلمّا خرجت من عنده سألها نساؤها فقلن: ما فعل معك الأمير؟ فقالت: حاط لي ذمّتي، وأكرم وجهي، إنْ يكرم الكريم الاّ كريماً(4).
____________
1- الخورنق: اسم قصر بالعراق، فارسيّ معرّب، بناه النعمان الأكبر. (لسان العرب) 2- أثبتناه من "ج".
3- في "ج": وأعطاها.
4- أورده المصنف رحمه الله في أعلام الدين: 283 باختصار.
وما الدهر والأيّام الاّ كما ترى | رزيّة مال أو فراق حبيب |
وانّ امرأً قد جرّب الدهر لم يخف | تقلّب يوميه لغير أريب |
وقال الآخر:
هو الموت لا منجى من الموت والذي | اُحاذر بعد الموت أدهى وأفظع |
وقال آخر:
إذا الرجال كثرت أولادها | وجعلت أوصابها تعتادها |
واضطربت من كبرها أعضادها | فهي زروع قد دنا حصادها |
وقال بعضهم: اجتزت بدار جبار كان معجباً بنفسه وملكه، فسمعت هاتفاًينشد ويقول:
وما سالم عمّا قليل بسالم | وان كثرت أحراسه ومواكبه |
ومن يك ذا باب شديد وحاجب | فعمّا قليل يهجر الباب حاجبه |
ويصبح في لحد من الأرض ضيّقاً | يفارقه أجناده ومواكبه |
وما كان الاّ الموت حتّى تفرّقت | إلى غيره أحراسه وكتائبه |
وأصبح مسروراً به كلّ كاشح | وأسلمه أحبابه وحبائبه |
فنفسك فاكسبها السعادة جاهداً | فكلّ امرء رهناً بما هو كاسبه |
قال: وكان بعضهم إذا نظر في المرآة إلى جماله أنشد:
يا حسان الوجوه سوف تموتون | وتبلى الوجوه تحت التراب |
يا ذوي الأوجه الحسان المصونات | وأجسامها الفظاظ الرطاب |
اكثروا من نعيمها أو أقلّوا | سوف تهدونها لعفر التراب |
قد نعتك الأيّام نعياً صحيحاً | بفراق الأقران والأصحاب |
تذكّر ولا تنس المعاد ولا تكن | كأنّك في الدنيا مخلى وممرج(2) |
فلابد من بيت انقطاع ووحشة | وان غرّك البيت الأنيق المدبّج |
ووجد على بعض القبور مكتوباً هذه الأبيات:
تزوّد من الدنيا فانّك لاتبقى | وخذ صفوها لمّا صفت ودع الرتقا |
ولا تأمننّ الدهر انّي أمنته | فلم يبق لي خلاًّ ولم يرع لي حقّا |
قتلت صناديد الملوك فلم أدع | عدوّاً ولم أمهل على ظنّه خلقا |
وأخليت دار الملك من كل بارع | فشرّدتهم غرباً وفرّقتهم(3) شرقا |
فلمّا بلغت النجم غراً ورفعة | وصارت رقاب الخلق أجمع لي رقّا |
رماني الردى رمياً فأخمد جمرتي | فها أنا ذا في حفرتي مفرداً ملقى |
فأفسدت دنيائي وديني جهالة | فمن ذا الذي منّي بمصرعه أشقى |
وقال بعضهم: يا أيّها الإنسان لا تتعظّم، فليس بعظيم من خلق من الترابوإليه يعود، وكيف يتكبّر من أوّله نطفة مذرة(4)، وآخره جيفة قذرة، وهو يحمل بين جنبيه العذرة، واعلم انّه ليس بعظيم من تصرعه الأسقام، وتفجعه الآلام، وتخدعه الأيّام، ولا يأمن أن يسلبه الدهر شبابه وملكه، وينزله من علوّ سريره إلى ضيق قبره، انّما الملك العاري من هذه المعائب، ثم أنشد:
أين الملوك وأبناء الملوك ومن | قاد الجيوش ألا يا بئس ما عملوا |
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم | غلب الرجال فلم تنفعهم القلل |
____________
1- أثبتناه من "ب" و"ج".
2- في "ج": مخرج.
3- في "ب" و"ج": مزّقتهم.
4- في"ج": قذرة.