فانزلوا بعد عزٍّ من معاقلهم(1) | واسكنوا حفرة يا بئس ما نزلوا |
ناداهم صارخ من بعد ما دفنوا | أين الأسرّة والتيجان والكلل(2) |
أين الوجوه التي كانت منعّمة | من دونها تضرب الأستار والحجل |
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم | تلك الوجوه عليها الدود يقتتل(3) |
قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا | فأصبحوا بعد طيب الأكل قد اكلوا |
سالت عيونهم فوق الخدود فلو | رأيتهم ما هنّاك العيش يا رجل |
وقال الحسين عليه السلام: ياابن آدم تفكّر وقل: أين ملوك الدنيا وأربابها الذين عمّروا خرابها، واحتفروا أنهارها، وغرسوا أشجارها، ومدّنوا مدائنها، فارقوها وهم كارهون، وورثها(4) قوم آخرون، ونحن(5) بهم عمّا قليل لاحقون.
ياابن آدم اذكر مصرعك، وفي قبرك مضجعك، وموقفك بين يدي الله تعالى، يشهد جوارحك عليك، يوم تزلّ فيه الأقدام، وتبلغ القلوب الحناجر، وتبيضّ وجوه وتسودّ وجوه، وتبدى السرائر ويوضع الميزان للقسط.
ياابن آدم اذكر مصارع آبائك وأبنائك كيف كانوا وحيث حلّوا، وكأنّك عن قليل قد حللت محلّهم، وأنشد:
أين الملوك التي عن حظّها(6) غفلت | حتّى سقاها بكأس الموت ساقيها |
تلك المدائن في الآفاق خالية | عادت خراباً وذاق الموت بانيها |
أموالنا لذوي الورّاث نجمعها | ودورنا لخراب الدهر نبنيها |
ما عبّر أحد عن الدنيا كما عبّر أميرالمؤمنين عليه السلام بقوله: دار بالبلاء
____________
1- في "ب": منازلهم.
2- في "ب": الحلل.
3- في "ج": تنتقل.
4- في "ب": ورثوها.
5- في "الف": وهم.
6- في "ب" و"ج": حفظها.
واعلموا عباد الله انّكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من كان قبلكم ممّن كان أطول منكم أعماراً، وأعمر دياراً، وأبعد آثاراً، أصبحت أصواتهم هامدة، وآثارهم خامدة، ورياحهم راكدة، وأجسادهم بالية، وديارهم خاوية، وآثارهم عافية.
فاستبدلواالقصورالمشيّدة،والنمارق الممهّدة،والصخور(2)والأحجار المسندة، بالقبور اللاّطية الملحّدة التي قد بُني على الخراب فناؤها، وشُيّد بالتراب بناؤها، فمحلّها مقترب، وساكنها مغترب، بين أهل محلّة موحشين وأهل فراغ متشاغلين.
لا يستأنسون بالأوطان، ولا يتواصلون تواصل الجيران على ما بينهم من قرب الجوار، ودنوّ الدار، فكيف يكون بينهم تواصل وقد طحنهم بكلكلة البلاء، وأكلهم الجنادل والثرى، وكأنّكم قد صرتم إلى ما صاروا إليه، وارتهنكم(3) ذلك المضجع، وضمّكم ذلك المستودع.
فكيف بكم إذا تناهت بكم الاُمور، وبُعثرت القبور، هنالك تبلو كلّ نفس ما أسلفت، وردّوا إلى الله مولاهم الحق وضلّ عنهم ما كانوا يفترون(4).
ودخل أبوالهذيل دار المأمون فقال: انّ دارك هذه كانت مسكونة قبلك من ملوك درست آثارهم، وانقطعت أعمارهم، فالسعيد من وعظ بغيره(5).
____________
1- في "ب" و"ج": متصرّفة.
2- في "ب": بالصخور.
3- في "ب": ارتهنتم.
4- نهج البلاغة: الخطبة 226; عنه البحار 73:82ح45.
5- مجموعة ورام 2:221.
الباب الخامس
في التخويف والترهيب من كتاب الله جلّ جلاله
قال: {ونخوّفهم فما يزيدهم الاّ طغياناً كبيراً}(1).
وقال سبحانه: {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر}(2).
وقال: {ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير}(3).
وقال: {وما نرسل بالآيات الاّ تخويفاً}(4).
وقال: {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون * أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحىً وهم يلعبون * أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله الاّ القوم الخاسرون}(5).
____________
1- الأسراء: 60.
2- القمر: 46.
3- الملك: 16-17.
4- الأسراء: 59.
5- الأعراف: 97-99.
وقال: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابّة}(2).
وقال سبحانه: {ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلّهم يرجعون}(3).
وقال سبحانه: {وتلك القرى أهلكناهم لمّا ظلموا}(4).
وقال: {فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات اُحلّت لهم}(5).
وقال سبحانه: {ولو لا كلمة سبقت من ربّك لقضي بينهم}(6).
وقال سبحانه: {ولو لا كلمة سبقت من ربّك لكان لزاماً وأجلاً مسمى}(7)، يعني سبحانه: للزمهم(8) بالعذاب عند كلّ معصية، وانّما سبق منه سبحانه أنّه قال: {وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون}(9).
وقال أميرالمؤمنين عليه السلام: كان في الناس أمانان رسول الله صلى الله عليه وآله والاستغفار، فرفع منهم أمان وهو رسول الله صلى الله عليه وآله، وبقي أمان وهو الاستغفار(10).
____________
1- الجاثية: 7-8.
2- النحل: 61.
3- الروم: 41.
4- الكهف: 59.
5- النساء: 160.
6- هود: 110.
7- طه: 129.
8- في "ب" و "ج": ألزمهم.
9- الأنفال: 33.
10- نهج البلاغة: قصار الحكم 88; عنه البحار 93:284ح31; روضة الواعظين: 478.
الباب السادس(1)
في التخويف من الآثار
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: مهلاً عباد الله عن معصية الله، فإنّ الله شديد العقاب(2).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: انّ الله لم يعط ليأخذ ولو أنعم على قوم ما أنعم، وبقو ما بقي الليل والنهار، ما سلبهم تلك النعم وهم له شاكرون إلاّ أن يتحوّلوا من شكر إلى كفر، ومن طاعة إلى معصية، وذلك قوله تعالى:{انّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم}(3).
وقال أميرالمؤمنين عليه السلام: انّ الله يبتلي عباده عند طول السيّئات بنقص الثمرات، وحبس البركات، واغلاق خزائن الخيرات ليتوب تائب، ويقلع مقلع، ويتذكّر متذكّر، وينزجر منزجر، وقد جعل الله الاستغفار سبباً له وللرزق
____________
1- أثبتنا عنوان هذا الباب من "الف"، ولم يرد في سائر النسخ، وبه يتم خمس وخمسين باباً كما وعده المصنف (ره).
2- مجموعة ورام 2: 221.
3- الرعد: 11.
فرحم الله من قدّم توبته، وأخّر شهوته، واستقال عثرته، فإنّ أمله خادع له، وأجله مستور عنه، والشيطان موكل به، يمنّيه التوبة ليسوّفها، ويزهي له المعصية ليرتكبها، حتّى تأتي عليه منيّته وهو أغفل ما يكون عنها.
فيالها حسرة على ذي غفلة أن يكون عمره عليه حسرة، وأن تؤدّيه أيّامه إلى شقوة، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا وايّاكم ممّن لا تبطره نعمة، ولا تقصر به عن طاعة ربّه غاية، ولا تحلّ(2) به بعد الموت ندامة ولا كآبة(3).
وقال صلى الله عليه وآله: ولو انّهم حين تزول عنهم النعم وتحل بهم النقم، فزعوا إلى الله بوَلَه من نفوسهم، وصدق من نيّاتهم، وخالص من طويّاتهم، لرد عليهم كلّ شارد، ولأصلح لهم كلّ فاسد(4).
وقال النبي صلى الله عليه وآله: انّ لله تعالى ملكاً ينزل في كلّ ليلة وينادي: يا أبناء العشرين جدّوا واجتهدوا، ويا أبناء الثلاثين لا تغرنّكم الحياة الدنيا، ويا أبناء الأربعين ماذا أعددتم للقاء ربّكم، ويا أبناء الخمسين أتاكم النذير، ويا أبناء الستين زرع آن حصاده، ويا أبناء السبعين نودي بكم فأجيبوا، ويا أبناء الثمانين أتتكم الساعة وأنتم غافلون، ثم يقول: لولا عباد ركّع، ورجال خشّع، وصبيان رضّع، وأنعام رتّع لصبّ عليكم العذاب صبّاً(5).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أكرموا ضعفاءكم فانّما ترزقون
____________
1- النوح: 10-12.
2- في "الف": لا تجعل.
3- راجع البحار 91: 336 ح20.
4- نهج البلاغة: الخطبة 178; عنه البحار 6: 57 ح7.
5- عنه معالم الزلفى: 59.
وقال: يا بني هاشم، يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، يا بني قصيّ اشتروا أنفسكم من الله، واعلموا انّي أنا النذير، والموت المغيّر، والساعة الموعد.
ولما أنزل الله عليه: {وأنذر عشيرتك الأقربين}(2) صعد على الصفا وجمع عشيرته وقال: يا بني عبد المطلب، يا بني هاشم، يا بني عبد مناف، يا بني قصي، اشتروا أنفسكم من الله، فانّي لا اُغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس عمّ محمد، يا صفيّه عمّته، يا فاطمة ابنته ـ ثم نادى كل رجل باسمه وكل امرأة باسمهاـ لا ينجي الناس يوم القيامة الاّ العمل.
لا يجيء الناس يوم القيامة يحملون الآخرة(3) وتأتون وتقولون: انّ محمداً منّا، وتنادون: يا محمد يا محمد، فأعرض عنكم هكذا وهكذا ـ وأعرض عن يمينه وشماله ـ فوالله ما أوليائي منكم الاّ المتقون، انّ أكرمكم عند الله أتقاكم.
وروي انّه صلى الله عليه وآله لمّا مرض مرضه الذي مات فيها خرج متعصّباً، معتمداً على يد أميرالمؤمنين عليه السلام والفضل بن العباس، فتبعه الناس فقال: يا أيّها الناس انّه قد آن منّي خفوق ـ يعني رحيلاً ـ وقد اُمرت بأن أستغفر لأهل البقيع، ثم جاء حتّى دخل البقيع، ثم قال:
"السلام عليكم يا أهل التوبة، السلام عليكم يا أهل الغربة، ليهنكم ما أصبحتم فيه وقد نجوتم ممّا الناس فيه، أتت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أوّلها آخرها" ثم استغفر لهم وأطال الاستغفار، ورجع واجتمع(4) الناس حوله فحمد الله
____________
1- مجموعة ورام 2: 221.
2- الشعراء: 214.
3- في "الف": تحملون الآخرة.
4- في "ب": جمع.
أيّها الناس لا يتمنّ متمنٍّ ولا يدّعي مدّع انّه ينجو بلا عمل، أو يتقرّب إلى رضا الله بلا عمل، فانّه والله لا ينجي الاّ العمل ورحمة الله، ولو عصيت لهويت، ثم رفع طرفه إلى السماء وقال: اللهم هل بلّغت؟!(2)
وقال عليه السلام: ايّاكم ومحقرات الذنوب فإنّ لها من الله طالباً، وانّها لتجتمع على المرء حتّى تهلكه.
وقال عليه السلام: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً على أنفسكم، ولخرجتم على الصعدات تبكون على أعمالكم، ولو تعلم البهائم من الموت ما تعلمون ما أكلتم شيئاً سميناً.
وقال علي عليه السلام: أما والله لو تعلمون ما أعلم لبكيتم على أنفسكم، ولخرجتم على الصعدات تندمون على أعمالكم، ولتركتم أموالكم لا حارس لها، ولا خالف عليها، ولكنّكم نسيتم ما ذكّرتم، وأمنتم ما حذّرتم، فتاه(3) عنكم رأيكم، وتشتت عليكم أمركم.
أما والله لوددت انّ الله ألحقني بمن هو خير لي منكم، قوم والله ميامين الرأي، مراجيح الحكمة، مقاويل الصدق، متاريك للبغي، مضوا قدماً على الطريقة، وأوجفوا على المحجّة، فظفروا بالعقبى الدائمة والكرامة الباقية.
____________
1- أثبتناه من "ب" و"ج".
2- ارشاد المفيد: 97; عنه البحار 22: 467 ضمن حديث 19; اعلام الورى: 140 باختلاف.
3- في "ب": ففاتكم.
وقال عليه السلام: انّ الزاهدين في الدنيا تبكي قلوبهم وان ضحكوا، ويشتدّ حزنهم وان فرحوا، ويكثر مقتهم أنفسهم وان اغتبطوا بما رزقوا(4).
وقال عليه السلام في خطبة: أمّا بعد فإنّ الدنيا قد أدبرت وأذنت بوداع، وانّ الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع، ألا وانّ اليوم المضمار وغداً السبقة، والسبقة الجنّة والغاية النار.
أفلا تائب من خطيئته قبل منيّته، ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه وحسرته، ألا وانّكم في أيّام أمل(5) من ورائه أجل، فمن عمل في أيّام أمله(6) قبل حضور أجله نفعه عمله ولم يضرّه أجله، ومن قصر في أيّام أمله(7) خسر عمله وضرّه(8)أجله.
ألا فاعملوا في الرغبة كما تعملون في الرهبة، ألا وانّي لم أر كالجنّة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها، وانّه من لم ينفعه الحق يضرّه الباطل، ومن لم يستقم به الهدى يرده الضلال، ألا وانّكم قد امرتم بالظعن، ودللتم على الزاد، وانّ أخوف ما أتخوّف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، وتزوّدوا من الدنيا في الدنيا ما تنجون به
____________
1- في "ج": ليظهر.
2- أثبتناه من "ب" و"ج".
3- نهج البلاغة: الخطبة 116.
4- نهج البلاغة: الخطبة 113.
5- في "ج": عمل.
6- في "ج": عمله.
7- في "ب": أجله.
8- في "ب": قصر.
يقول العبد الفقير إلى رحمة الله ورضوانه، الحسن بن محمد الديلمي تغمّده الله برأفته ورحمته وغفرانه: انّ هذا الكلام منه عليه السلام لعظيم الموعظة، وجليل الفائدة، وبليغ المقالة، لو كان كلام يأخذ بالازدجار والموعظة لكان هذا، فكفى به قاطعاً لعلائق الآمال، وقادحاً زناد الاتعاظ والايقاض.
يأخذ والله بأعناق المتفكّرين فيه المتبصّرين في الزهد، ويضطرّهم إلى عمل الآخرة، فاعتبروا وتفكّروا وتبصّروا إلى معانيه يا اُولي الأبصار.
وقال عليه السلام في خطبة اُخرى تجري هذا المجرى: انظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها الصارفين عنها، فانّها عن قليل والله تزيل الثاوي الساكن، وتفجع المترف الآمن، لا يرجع ما تولّى منها فأدبر، ولا يدرى ما هو آت منها فينتظر، سرورها مشوب بالحزن، وجلد الرجال منها إلى الضعف والوهن.
فلا تغرّنّكم كثرة ما يعجبكم فيها لقلّة ما يصحبكم منها، فرحم الله امرء تفكّر فاعتبر فأبصر، وكأنّما هو كائن من الدنيا عن قليل لم يكن، وما هو كائن من الآخرة عمّا قليل لم يزل، وكلّ معدود منقص، وكلّ متوقّع آت، وكلّ آت قريب دان.
والعالم من عرف قدره، وكفى بالمرء جهلاً أن لا يعرف قدره، وانّ أبغض العباد إلى الله لعبد وكّله الله لنفسه، وهو جائر عن قصد السبيل، سائر بغير دليل، إن دُعي إلى حرث الدنيا عمل وإلى حرث الآخرة كسل، كأنّما عمل له واجب عليه، وما ونى عنه ساقط عنه. وذلك زمان لا يسلم فيه الاّ كلّ مؤمن نؤمة، ان شهد لم يُعرف، وان غاب لم يُفتقد، اُولئك مصابيح الهدى، وأعلام الورى، ليسوا بالمساييح ولاالمذاييع البذر، اُولئك يفتح الله عليهم باب الرحمة، ويكشف عنهم ضرّاء(2) نقمته.
____________
1- نهج البلاغة: الخطبة 28; ونحوه البحار 77: 333 ح21.
2- في "ج": ضرّ.
قوله عليه السلام: "كلّ مؤمن نؤمة" يريد الخامل الذكر، القليل الشر(3)، و "المساييح" جمع مسياح، وهو الذي يسيح بالفساد والنمائم، و "المذاييع" جمع مذياع، وهو الذي إذا سمع لغيره بفاحشة أذاعها وأعلن بها، و "البذر" وهو كثير السفه واللغو بالهذيان.
وقال عليه السلام في خطبة اُخرى تجري هذا المجرى: ألا وانّ الدنيا قد تصرّمت، [وأذنت بزوال](4) وأذنت بانقضاء، وتنكّر معروفها، وأدبرت حذّاء(5)، فهي تخوّف بالفناء سكّانها، وتحذّر بالموت جيرانها، وقد أمرّ منها ما كان حلواً، وكدر منها ما كان صفواً، فلم يبق منها الاّ سملة(6) كسملة الأداوة(7)، أو جرعة كجرعة المقلة لو تمزّزها(8) الصدآن لم ينفع(9).
فأزمعوا عباد الله الرحيل عن هذه الدار، المقدور على أهلها الزوال، ولا يغرّنّكم فيها الأمل، ولا يطولنّ عليكم الأمد، فوالله لو حننتم حنين الواله العجلان، ودعوتم بهديل(10) الحمام، وجأرتم جؤار متبتلي الرهبان، وخرجتم إلى الله من
____________
1- المؤمنون: 30.
2- نهج البلاغة: الخطبة 103.
3- زاد في "ج": والمصابيح جمع مصباح.
4- أثبتناه من "ب".
5- أي ماضية سريعة.
6- السملة ـ محرّكة ـ: الماء القليل. (القاموس) 7- الأداوة: المطهرة.
8- تمزّز: تمصّص الماء.
9- في "ب": لو مرّ بها الصدآن لم ينتفع.
10- الهديل: صوت الحمام، أو خاص بوحشيها. (القاموس)
وتالله لو انماثت قلوبكم انمياثاً، وسالت عيونكم من رغبة إليه(1) ورهبة دماً، ثم عمّرتم في الدنيا ما كانت الدنيا قائمة ما جزت أعمالكم ولو لم تبقوا شيئاً من جهدكم، لأنعمه عليكم العظام وهداه ايّاكم للايمان(2).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله انّه: ليظهر النفاق، وترفع الأمانة، وتغيض الرحمة، ويتّهم الأمين، ويؤتمن الخائن، أتتكم الفتن كأمثال الليل المظلم.
وجاء في قوله تعالى: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك}(3) قال: ينادون أربعين عاماً فلا يجيبهم، ثم يقول: {انّكم ماكثون} فيقولون: {ربنا أخرجنا منها فان عدنا فانّا ظالمون} فيدعون أربعين عاماً، فيقال لهم: {اخسأوا فيها ولا تكلّمون}(4) فييأس القوم بعدها، فلم يبق الاّ الزفير والشهيق(5) كما تتناهق الحمير(6).
وقال صلى الله عليه وآله: يشتد على اهل النار الجوع على ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصّة وعذاب أليم وشراب حميم فيقطع أمعاءهم، فيقولون لخزنة جهنّم: ادعو ربكم يخفّف عنّا يوماً من العذاب، فيقال لهم: ألم تك تأتيكم رسلكم بالبيّنات؟ قالوا: بلى، قالوا: فادعوا وما دعاء
____________
1- في "ب" و"ج": من رغبة الله.
2- نهج البلاغة: الخطبة 52.
3- الزخرف: 77.
4- المؤمنون: 106-108.
5- في "ب": النهيق.
6- عنه معالم الزلفى: 358.
وقال الحسن عليه السلام: انّ الله تعالى لم يجعل الأغلال في أعناق أهل النارلأنّهم أعجزوه، ولكن إذا طفى بهم اللهب أرسبهم في قعرها، ثم غشى عليه فلمّا أفاق من غشوته قال: يا ابن آدم نفسك نفسك، فانّما هي نفس واحدة، ان نجت نجوت وان هلكت لم ينفعك نجاة من نجى(2).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ويلٌ للأغنياء من الفقراء يوم القيامة يقولون: ربنا ظلمونا حقوقنا التي فرضت عليهم في أموالهم(3).
وقال عليه السلام: بئس العبد عبد سهى ولهى وغفل ونسى القبر والبلى، وبئس العبد عبد طغى وبغى ونسى المبتدأ والمنتهى، وبئس العبد عبد يقوده الطمع، ويطغيه الغنى، ويرديه الهوى.
الحديث رواه الخليفة بن الحصين، قال: قال قيس بن عاصم: وفدت على رسول الله صلى الله عليه وآله في جماعة من بني تميم، فقال لي: اغتسل بماء وسدر، فاغتسلت ثم رجعت إليه فقلت: يا رسول الله عظنا موعظة ننتفع بها.
فقال: يا قيس انّ مع العزّ ذلاًّ، وانّ مع الحياة موتاً، وانّ مع الدنيا آخرة، وانّ لكلّ شيء حسيباً، وعلى كلّ شيء رقيباً، وانّ لكلّ حسنة ثواباً، ولكلّ سيّئة عقاباً، وانّه لابد لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حيّ، وتدفن معه وأنت ميّت، فان كان كريماً أكرمك، وان كان لئيماً أساءك(4)، ثم لا تدفن الاّ معه ولا يدفن الاّ معك، فلا تجعله الاّ صالحاً، لأنّه إذا كان صالحاً لا يؤنسك الاّ هو، وان كان فاحشاً لا يوحشك الاّ هو.
____________
1- عنه معالم الزلفى: 358.
2- مجموعة ورام 1: 301; معالم الزلفى: 358.
3- عنه معالم الزلفى: 358.
4- في "ب" و"ج": أسلمك.
تخيّر خليطاً من فعالك انّما | قرين الفتى في القبر ما كان يفعل |
فلابد بعد الموت من أن تعدّه | ليوم ينادي المرء فيه فيقبل |
فان كنت مشغولاً بشيء فلا تكن | بغير الذي يرضى به الله تشغل |
فلن يصحب الإنسان من بعد موته | ومن قبله الاّ الذي كان يعمل |
ألا انّما الإنسان ضيف لأهله | يقيم قليلاً بينهم ثم يرحل(2) |
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لكلّ انسان ثلاثة أخلاّء، أما أحدهم فيقول: ان قدّمتني كنت لك، وأما الآخر فيقول: أنا معك إلى باب الملك ثم اُودّعك وأمضي عنك، وأما الثالث فيقول: أنا معك لا اُفارقك.
فامّا الأول فماله، وأمّا الثاني فأهله وولده، وأمّا الثالث فعمله، فيقول: والله لقد كنت عندي أهون الثلاثة، فليتني لم أشغل الاّ بك.
وقال العِرباض بن سارية: وعظنا رسول الله موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله انّ هذه لموعظة مودّع، فما تعهد إلينا؟ فقال: تركتكم على المحجّة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ(3) بعدها الاّ هالك. ومن يعيش منكم يرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من أهل بيتي، فعظّوا عليهم بالنواجذ، وأطيعوا الحق ولو كان صاحبه عبداً حبشيّاً، فإنّ المؤمن كالجمل الأنوف(4) حيث ما قيد استقاد(5).
____________
1- في "ب": فأرادوا.
2- معاني الأخبار: 232; الخصال: 114 ح 93 باب الثلاثة; أمالي الصدوق: 12ح 4 مجلس 1; عنهم البحار 77: 110 ح1; ومعالم الزلفى: 121.
3- في "الف": لا يرتفع.
4- في "ج": الألوف.
5- الترغيب والترهيب 1: 77 ح1.
وقال سفيان بن عيينة: ليس(2) أحد من عباد الله الاّ ولله الحجّة عليه، امّا مهمل لطاعة، أو مرتكب لمعصية، أو مقصّر في شكر(3).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يقول الله تعالى: "ياابن آدم ما تنصفني، أتحبّب إليك بالنعم وتتبغّض اليّ بالمعاصي، خيري إليك نازل وشرّك اليّ صاعد، ولم يزل ولا يزال في كلّ يوم ملك كريم يأتيني عنك بعمل قبيح، ياابن آدم لو سمعت وصفك من غيرك وأنت لا تدري من الموصوف لسارعت إلى مقته"(4).
وقال صلى الله عليه وآله: لا يغرّنّكم من ربّكم طول النسية، وتمادي الامهال، وحسن التقاضي فإنّ أخذه أليم، وعذابه شديد، انّ لله تعالى في كلّ نعمة حقّاً وهو شكره، ومن أدّاه زاده، ومن قصر فيه سلبه منه، فليراكم الله من النقمة وجلين كما رآكم بالنعمة فرحين(5).
وقال ابن عباس: آخر آية نزلت: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفّى كلّ نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}(6).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: انّي لأعرف آية في كتاب الله لو أخذ بها
____________
1- التكاثر: 8.
2- في "ج": ما من أحد.
3- مجموعة ورام 2: 221.
4- أمالي الطوسي: 125 ح10 مجلس 5; البحار 73: 352 ح50.
5- مجموعة ورام 2: 221.
6- البقرة: 281.
____________
1- الطلاق: 2-3.
2- مستدرك الوسائل 11: 267 ح12963.