وقال صلى الله عليه وآله لأبي ذر: يا أباذر انّ الدنيا سجن المؤمن والقبر أمنهوالجنّة مأواه، وانّ الدنيا جنّة الكافر والقبر عذابه والنار مثواه(2).
وقال: الزاهد في الدنيا يريح قلبه وبدنه، والراغب فيها يُتعب قلبه وبدنه(3).
وقال: المؤمن يتزوّد، والكافر يتمتّع، يا ابن آدم عفّ عن محارم الله تكن عابداً، وارض بما قسّم الله لك تكن غنيّاً، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلماً، وصاحب الناس بما تحب أن يصحبوك تكن منصفاً، انّه قد كان قبلكم قوم جمعوا كثيراً، وبنوا مشيّداً، وأملوا بعيداً، فأصبح جمعهم بوراً، ومساكنهم قبوراً.
ياابن آدم انّك مرتهن بعملك، متعرّض على ربّك، فجد بما في يديك لما بين يديك، وطأ الأرض بقدمك، فانّها عن قليل مسكنك، لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت على الأرض من بطن اُمّك(4).
وقال: من استغنى بالله أحوج الله الناس إليه(5).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: الدنيا منتهى بصر الأعمى، لا يبصر ممّا ورآها شيئاً، والبصير ينفذها بصره، ويعلم انّ الدار(6) وراءها، فالبصير منها شاخص، والأعمى إليها شاخص، والبصير منها يتزوّد، والأعمى إليها يتزوّد(7).
وقال: الزهد قصر الأمل، والشكر على النعم، والورع عن المحارم، فان عزب
____________
1- أورد نحوه في أعلام الدين: 280.
2- راجع البحار 6: 169 ح 41.
3- روضة الواعظين: 441 نحوه.
4- مجموعة ورام 2:216.
5- البحار 78:79 ح 62 نحوه.
6- في "ب": النار، وفي "ج": البوار.
7- نهج البلاغة: الخطبة 133.
وقال عليه السلام: أيّها الناس انّ الدنيا دار ممرّ والآخرة دار مستقرّ، فخذوا من ممرّكم لمستقرّكم، وأخرجوا من الدنيا قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم، فللآخرة خلقتم وفي الدنيا حبستم.
وإنّ المرء إذا مات قالت الملائكة: ما قدّم، وقال الناس: ما خلّف، فلله اياكم، قدّموا كلّما(3) يكون لكم، ولا تخافوا(4) كلّما يكون عليكم، فانّما مثل الدنيا مثل السمّ يأكله من لا يعرفه(5).
وقال عليه السلام: انّ السعداء بالدنيا الهاربون منها اليوم(6).
وقال: ما يصنع بالمال والولد من يخرج منها ويحاسب عليها، عراة دخلتم الدنيا وعراة تخرجون منها، وانّما هي قنطرة فاعبروا عليها وانتظروها.
وقال في دعائه: "اللهم توفّني فقيراً، ولا توفّني غنيّاً، واحشرني في زمرة المساكين"، وقال: أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة(7).
وقال أميرالمؤمنين عليه السلام: الرغبة فيما عندالله تورث الروح والراحة، والرغبة في الدنيا تورث الهم والحزن(8).
وقال: انّ من صفات أولياء الله: الثقة به في كل شيء، والغنى به عن كل شيء،
____________
1- في "الف": مستقرة.
2- نهج البلاغة: الخطبة 81 في الزهد.
3- في"ج": كيلا.
4- في "ب" و"ج": ولا تقدموا.
5- روضة الواعظين: 442 في ذكر الدنيا; ومشكاة الأنوار: 269.
6- نهج البلاغة: الخطبة 223; عنه البحار 71:193 ح 59.
7- كنز الفوائد: 289; عنه البحار 103:20 ح 3 نحوه.
8- مشكاة الأنوار: 269.
وقال: ادفع الدنيا بما يحضرك من الزاد وتبلغ به.
وكان عليه السلام ينشد ويقول:
ادفع الدنيا بما اندفعت | واقطع الدنيا بما انقطعت |
يطلب المرء الغنى عبثاً | والغنى في النفس لو قنعت(2) |
وقال عليه السلام: والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتّى استحييت من راقعها، وقال لي قائل: ألا تنبذها؟ فقلت: أعزب(3) عنّي فعند الصباح يحمد القوم السُّرى(4).
وقال: الزاهدون في الدنيا ملوك الدنيا والآخرة، والراغبون فيها فقراء الدنيا والآخرة، ومن زهد في الدنيا ملكها، ومن رغب فيها ملكته.
وقال نوف البكالي: كنت عند أميرالمؤمنين عليه السلام ذات ليلة، فقام من فراشه ونظر في النجوم، ثمّ قرأ آيات آل عمران: {انّ في خلق السموات والأرض...}(5).
ثم قال: يا نوف أراقد أنت أم رامق؟ فقلت: بل رامق يا أميرالمؤمنين، فقال: يا نوف طوبى للزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، اولئك قوم اتخذوا الأرض بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طيباً، والقرآن شعاراً، والدعاء دثاراً(6)، ثم قرضوا
____________
1- كنز الفوائد: 288; عنه البحار 103:20ح2 2- كنز الفوائد: 289; عنه البحار103:21ح13.
3- أعزب: بَعُد وأَبعَد. (القاموس) 4- نهج البلاغة: الخطبة 160; عنه البحار41:160ح56.
5- آل عمران: 188.
6- الشعار: ما ولي شعر جسد الإنسان دون ما سواه من الثياب، والدثار: الثوب الذي فوق الشعار. (لسان العرب)
يا نوف انّ الله تعالى أوحى إلى المسيح أن: قل لبني اسرائيل لا يدخلوا بيتاً من بيوتي الاّ بقلوب طاهرة، ونيّات(2) نقيّة، وألسن ناطقة صادقة، وأعلمهم انّي لا أستجيب لأحد منهم دعاءً ولأحد من خلقي قبله تبعة، يعني مظلمة.
يا نوف انّ رسول الله صلى الله عليه وآله قام في مثل هذه الساعة فقال: انّ هذه ساعة لا تردّ لأحد فيها دعوة الاّ أن يكون عريفاً، أوعشّاراً، أوشرطيّاً، أوشاعراً، أوصاحب عرطبة(3). والعرطبة الطبل الكبير والكبر(4) الصغير، وروي بالعكس.
وقال: ما عاقبت أحداً عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وضع أمر أخيك على أحسنه، ولا تظنّنّ بكلمة خرجت منه شرّاً وأنت تجد لها في الخير محملاً، ومن كتم سرّه ملك أمره وكانت الخيرة بيده، ومن عرض نفسه للتهمة فلا يلومنّ من أساء به الظن(5).
وعليكم باخوان الصدق تعيشوا في أكنافهم، ولا تهاونوا بالحلف(6) فيهينكم الله، ولا تتعرّضوا لما لا يعنيكم، وعليكم بالصدق فهو النجاة والمنجاة، واحذروا من عدوّكم من الجن والانس، ولا تصحبوا الفجّار، واستشيروا ذوي الدين والنصيحة ترشدوا، وواخوا الاخوان بالله، ولا تعيبون شيئاً تأتون بمثله.
وقال سويد بن غفلة: دخلت على أميرالمؤمنين عليه السلام في داره، فلم أر
____________
1- في "ج": رفضوا الدنيا رفضاً.
2- في "ج": ثياب.
3- الخصال: 337ح40باب6; عنه البحار77:401ح22.
4- كذا في الأصل.
5- في"ج": فلا يلومنّ الاّ نفسه.
6- في"ب": في الخلق.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: انّ أشد ما أتخوّف عليكم منه اتباع الهوى وطول الأمل، فإنّ اتباع الهوى يصدّ عن الحق، وطول الأمل ينسي الآخرة، وانّ الله تعالى يعطي الدنيا لمن يحب ويبغض، ولا يعطي الآخرة الاّ لمن يحب.
وانّ للدنيا أبناءً وللآخرة أبناء، فكونوا من أبناء الآخرة [ولا تكونوا من أبناء الدنيا](2) فإنّ كلّ ولد يتبع بامّه، ألا وإنّ الدنيا قد ترحّلت مدبرة، والآخرة قد تجمّلت مقبلة، وانّكم في يوم عمل ليس فيه حساب، ويوشك أن تكونوا في يوم حساب ليس فيه عمل(3).
وقال صلى الله عليه وآله: يا أيها الناس لا تغترّوا، فإنّ الله تعالى لو أهمل شيئاً لأهمل الذرّة والخردلة والبعوضة(4).
وقال ابن مسعود: انّما أنتم في الدنيا مع آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، فمن يزرع خيراً يحصد زرعه رغبة، ومن يزرع شرّاً يحصد زرعه رهبة، ومن اُعطي خيراً فالله أعطاه، ومن وقي شرّاً فالله وقاه، المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة، ولو لم يكن فينا الاّ حبّاً لمن أبغض الله ـ وهي الدنيا ـ لكفى به ذنباً.
وقد قال النبي صلى الله عليه وآله: حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة، ومفتاح كلّ
____________
1- مجموعة ورام: 2:22 نحوه.
2- اثبتناه من "ب" و"ج".
3- مجموعة ورام: 1:271 نحوه.
4- مجموعة ورام: 2:218.
ولقد أحسن من قال فيها:
هي الدنيا تقول لمن عليها | حذار حذار من بطشي وفتكي |
فلا يغرركم حسن ابتسامي | فقولي مضحك والفعل مبكي(3) |
____________
1- البحار 77:182; مستدرك الوسائل 12:70ح13538.
2- الأنفال: 28.
3- مجموعة ورام 1:1.
الباب الثالث
في ذمّ الدنيا، منثوراً ومنظوماً
عجباً عجباً لغفلة الإنسان | قطع الحياة بذلّة وهوان |
فكّرت في الدنيافكانت منزلاً | عندي كبعض منازل الركبان |
مجرى جميع الخلق فيها واحد | فكثيرها وقليلها سيّان |
أبغي الكثير إلى الكثير مضاعفاً | ولو اقتصرت على القليل كفاني |
لله درّ الوارثين كأنّني | بأخصّهم متبرّم بمكاني |
قلقاً يجهّزني إلى دار البلاء | متحرّياً(1) لكرامتي بهواني |
متبرياً حتّى إذا نشر الثرى | فوقي طوى كشحاً على هجراني |
وقال:
نل ما بداك أن تنال | فانّما تعطى وتسلب |
واعلم بأنّك غافل | في العالمين(2) وأنت تطلب |
____________
1- في "ج": متحفّزاً.
2- في "ج": في الغافلين.
والمشكلات كثيرة | والوقف عند الشك أصوب |
يبغي المهذّب في الاُمور | جميعها ومن المهذّب |
وروي انّه وجد على باب مدينة: ياابن آدم غافص(1) الفرصة عند امكانها، ووكّل الاُمور إلى مدبّرها، ولا تحمل على نفسك همّ يوم لم يأتك، فانّه ان لم يكن من أجلك يأتي الله فيه برزقك، ولا تكن عبرة للناظرين، واسوة بالمغرورين في جمع المال على المال، فكم من جامع لبعل حليلته، وتقتير المرء على نفسه توفير لخزانة غيره.
وقال الخليل: انّما يجمع المرء المال لأحد ثلاثة كلّهم أعداؤه: امّا زوج امرأته، أو زوج ابنه، أو زوج بنته، فمال المرء لهؤلاء ان تركه، فالعاقل الناصح لنفسه الذي يأخذ معه زاداً لآخرته، ولايؤثر هؤلاء على نفسه.
لبعضهم(2):
يا جامعاً لاهياً والدهر(3) يرمقه | مفكراً ايّ باب عنه يغلقه |
جمعت مالاً فقل لي هل جمعت له | يا غافل القلب أيّاماً تفرّقه |
ولأبي العتاهيّه:
أصبحت والله في مضيق | هل من دليل إلى الطريق |
اُفّ لدنيا تلاعبت بي | تلاعب الموج بالغريق |
وقال أيضاً:
نظرت إلى الدنيا بعين مريضة | وفكرة مغرور وتدبير جاهل |
فقلت هي الدنيا التي ليس غيرها(4) | ونافست فيها في غرور وباطل |
____________
1- غافصه: فاجأه، وأخذه على غرّة. (القاموس) 2- في "ب": وقال بعضهم في ذلك.
3- في"ب": والموت.
4- في "ب" و"ج": مثلها.
وضيّعت أحقاباً أمامي طويلة | بلذّة أيّام قصار قلائل |
[وقال أيضاً](1)
وان امرء دنياه أكبر همّه | لمستمسك منها بحبل غرور |
[وقال آخر:](2):
طلبتك يا دنيا فأعذرت في الطلب | وما نلت الاّ الهمّ والغمّ والنصب |
وأسرفت(3)في ذنبي ولم أقض حسرتي | هربت بديني(4) منك ان نفع الهرب |
ولم أر حظّاً كالقنوع لأهله | وان يحمل الإنسان ما عاش في الطلب |
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا تخالفوا على الله في أمره، فقالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: تسعون في عمران دار قضى الله بخرابها.
وكان علي بن الحسين عليه السلام يتمثّل [ويقول:](5)
ومن يصحب الدنيا يكن مثل قابض | على الماء خانته فروج الأصابع |
وقال النبي صلى الله عليه وآله: انّ الله تعالى جعل الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبى، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً، وثواب الدنيا من بلوى الآخرة عوضاً(6)، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي.
وانّها سريعة الزوال، وشيكة الانتقال، فاحذروا حلاوة رضاعها لمرارة فطامها، واهجروا لذيذ عاجلها لكربة آجلها، ولا تواصلوها وقد قضى الله اجتنابها، ولا تسعوا في عمرانها وقد قضى الله خرابها، فتكونوا لسخطه متعرّضين
____________
1- أثبتناه من "ب".
2- أثبتناه من "ج".
3- في "ج": وأسرعت.
4- في "ب" و"ج": بذنبي.
5- أثبتناه من "ب" و"ج".
6- في"ج": وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً.
وقال:
الدار دار نوائب ومصائب | وفجيعة بأحبّة وحبائب |
ما ينقضي رزئي بفرقة صاحب | الاّ اُصبت بفرقة من صاحب |
فإذا مضى الآلاف كفاك مظنّة(2) | والمؤنسين بأنّك أوّل ذاهب |
____________
1- راجع البحار 77:184ضمن حديث 10.
2- في "ب" و"ج": عنك لظنّه.