الأول: إن الاقرار باللسان هو الإيمان فقط لكن شرط كونه إيمانا هو حصول المعرفة في القلب فالمعرفة شرط لكون الاقرار باللسان إيمانا لا أنها داخلة في مسمى الإيمان وهو قول غيلان بن مسلم الدمشقي والفضل الرياشي وإن كان الكعبي قد أنكر كونه قولا لغيلان.
الثاني: إن الإيمان مجرد الاقرار باللسان من غير شرط آخر وهو قول الكرامية وزعموا أن المنافق مؤمن الظاهر كافر السريرة فثبت له حكم المؤمنين في الدنيا وحكم الكافرين في الآخرة فهذا مجموع أقوال الناس في مسمى الإيمان في عرف الشرع والذي نذهب إليه إن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب والإقرار باللسان ونعني بالتصديق الحكم الذهني بالثبوت والانتفاء الجازم المطابق الثابت وهو المستند إلى الدليل الصحيح في مادته وصورته والإقرار باللسان المطابق لذلك وذلك التصديق هو العلم التصديقي بوجود الله تعالى وصفاته الإيجابية والسلبية التي يجب معرفتها على المكلف كالتوحيد وبالنبوة وثبوتها لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وبصفاته من العصمة والمعجزة وبإمامة الأئمة الاثني عشر وبعصمتهم وبقاء الإمام صاحب الزمان عليه السلام إلى انقراض المكلفين وقد بين ذلك في علم الكلام إذا تقرر هذا فنقول قد يحصل من هذه الأقوال والمذاهب انحصار الناس في قولين:
أحدهما: قول من شرط العمل جزء من الإيمان.
وثانيهما: من لا يجعله جزءا من الإيمان فعلى المذهب الأول لا بد وأن يكون جزء الإيمان هو العمل الصالح الصحيح ولا بد وأن يجعل الله تعالى طريقا إلى العلم اليقيني بصحته فأما أن يكون من طريق الإخبار أولا والثاني لا يعم كالإلهام عادة والأول لا بد وأن يكون معلوم الصدق والإجماع والتواتر نادران فتعين إخبار المعصوم وحيث تطرق الموت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا نبي غيره وجب الإمام المعصوم إذ غيره خلاف الاجماع فقد ثبت احتياج المؤمن في إيمانه على هذا القول إلى الإمام المعصوم والقول الثاني قول من لا يشرط العمل في الإيمان فنقول أثر الإيمان العمل والعمل المطلوب منه
الثالث والعشرون: قوله تعالى: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون، هذه الآية تدل على عصمة الإمام ووجه الاستدلال يتوقف على مقدمات الأولى إذا كلف الله تعالى بشئ فإما أن يكلفه بعين ذلك أو به إن أداه اجتهاده إليه وإن لم يؤد اجتهاده إليه فما يؤدي اجتهاده إليه ويقوم ما يؤدي اجتهاده إليه مقام ما كلف به والثاني قول من قال كل مجتهد مصيب وقد أبطلناه في الأصول فتعين الأول الثانية لا بد للمكلف من طريق إلى إصابة الحكم المعين الذي حكم الله تعالى به في الواقعة لأنه لولاه لزم تكليف ما لا يطاق فلا أقل من لزوم الحرج وقد نفاه الله تعالى بهذه الآية، الثالثة الظن اعتقاد راجح يجوز معه النقيض وإذا جاز معه النقيض يكون أعم من المطلوب وإذا كان أعم فلا يصلح أن يكون طريقا موصلا إلى المطلوب لأن العام لا يستلزم الخاص فجعل ما هو أعم طريقا إلى إصابة الأخص لا أقل من أن يكون حرجا عظيما، الرابعة الطريق إلى العلم إما الضرورة أو النظر، والنظر ينحصر في قسمين قول المعصوم وغيره وللأول شرائط أحدها أن يكون واجب العصمة وثانيها أن يجعل تعالى دليلا للمكلف يوصله إلى معرفة عصمته وثالثها أن يعلم الله تعالى المعصوم تلك الأحكام التي حكم بها الله تعالى يقينا، ورابعها أن يؤدي المعصوم ما علمه الله تعالى من الأحكام، وخامسها أن يقبل المكلف منه وأن يأتمر بأمره وينتهي بنهيه ويتبعه في أقواله وأفعاله إذا تقرر ذلك.
فنقول: قد ثبت في علم الأصول إن لله تعالى في كل واقعة حكما واحدا وقد ثبت من هذه الآية أنه لا بد من طريق للمكلف إلى العلم بذلك الحكم يجعله الله تعالى وينصبه وذلك الدليل قد بينا أنه إما المعصوم أو غيره مثل الالهام والتواتر والإجماع والله تعالى قادر على أن يفعل ذلك لكن الثاني لم
(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) جعل أمر الإمام ثالث أمر الله تعالى فلو لم يكن معصوما لجاز منه الخطأ في حكمه فلا يكون امتثال أمره مطهر أو لا يصلح أن يجعل في ثالث مرتبة أمر الله وأمر الرسول بل هو
الرابع والعشرون: قوله تعالى: ((قد جاءكم من الله نور وكتب مبين) (يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صرط مستقيم)، هذه الآية تدل على أنه تعالى نصب أدلة يقينية في الكتاب يهدي بها من اتبع رضوانه واتبع سبل السلام هي الطرق التي يستفاد منها أحكام الله تعالى باليقين وإذ لم يمكن من الكتاب للمجتهدين فهي للمعصومين فأما أن تختص بالنبي صلى الله عليه وآله فيحصل اللطف للمكلفين في زمانه خاصة وهو ترجيح بلا مرجح وأما أن لا يختص بالنبي صلى الله عليه وآله بل تكون مشتركة بينه وبين الإمام فلا بد في كل زمان من إمام معصوم يعرف سبل السلام وتلك الطرق اليقينية وتكون آيات الكتاب بالنسبة إليه نورا لأنه لا شئ في الهداية مثل النور فإنه يفيد الأبصار اليقيني الذي لا يقبل الشك فلهذا شبه طرق الكتاب وذلك لا يمكن إلا للمعصوم الذي نفسه قدسية يكون العلوم بالنسبة إليها من قبيل فطرية القياس وهذا هو الحق.
الخامس والعشرون: قوله تعالى: (ويهديهم إلى صرط مستقيم) يدل على أن المراد أنه تعالى أراد الهداية إلى أمره ونهيه ومن ليس بمعصوم لا يمكن فيه ذلك فكما كان في النبي ينبغي في كل زمان كذلك يكون الإمام
السادس والعشرون: قوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا إنما على رسولنا البلاغ المبين) تقرير الاستدلال من هذه الآية وجوه:
أحدها: إنه تعالى أمر بالحذر عن مخالفة الأمر وعدم الاتيان بما أمر الله تعالى به حكمه تعالى في الأحكام التكليفية واحد كما تقرر في الأصول ومتى لم يوجد معصوم في كل زمان يفيد قوله العلم بحكم الله تعالى يقينا فالخوف حاصل ولا يندفع بدونه أو بخلق علوم ضرورية بالصواب ولم يحصل الثاني لأنا نبحث على هذا التقدير فلا بد من الأول.
ثانيها: طريق دفع الخوف لا بد فيه من خمسة أمور أحدها ما يتعلق بالله تعالى وهو نصب المؤدي والمبلغ وهو الرسول عليه السلام وحيث فناء البشر من الحكم المحتوم وعدم تناهي الوقائع معلوم وعدم وفاء عقول سائر المكلفين باستخراج كل الأحكام الشرعية من الكتاب العزيز والسنة على سبيل اليقين بلا شك ولا ريب أمر واقع لا نزاع فيه والمنازع مكابر والإجماع قليل ومسائله معدودة والتواتر كذلك ومن جعل شخص قائم مقام النبي في حفظ الشرع والعصمة عالم بالأحكام باليقين ويخبر عن علم لا يقبل الشك طريق صالح إلى دفع الخوف ومعرفة أحكام الله تعالى وإذا لم يحصل غيره من الطريق تعين هو باليقين، وثانيهما نصب دليل دال على نبوة النبي وعلى إمامة الإمام، وثالثها إبلاغ النبي وسعيه في الابلاغ ورابعها خلق فهم وذهن وآلات حسية للمكلفين لأجل التوصل إلى فهم الأحكام وانتصاب الإمام لتعريف الأحكام أن سأله المكلفون ودعائهم إليها إن أمن على نفسه وخامسها امتثال المكلفين لأمر الإمام والسعي في تفهيم الأحكام والأمور الأربعة المتقدمة من الله تعالى فلو لم يفعلها الله تعالى لكان حصول الأمن للمكلف متعسرا بل متعذرا والأمر بالحذر يستلزم الأمر بالسعي إلى ما يؤمن المكلف والاجتهاد في دفع الخوف وهو ظاهر فلو لم يجعل الطريق الذي من فعله ولا يتمكن المكلف منه لكان تكليفا بالمحال تعالى الله عن ذلك علوا
السابع والعشرون: قوله تعالى: (إنما على رسولنا البلاغ المبين) وإنما يكون البلاغ مبينا لو جعل فيه طريقا إلى العلم ولم يجعل طريقا غير المعصوم فتعين عليه النص على إمام معصوم.
الثامن والعشرون: قوله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة) بدأ الله تعالى بالخليفة قبل الخليقة والابتداء من الحكيم إنما هو بالأهم فدل على أن الخليفة أهم فلا بد وأن يكون الخليفة أكمل من كل الخلق في القوة العملية والعلمية وأشرفهم ومن يكون كذلك وليس ذلك إلا المعصوم.
التاسع والعشرون: فائدة الخليفة تكميل قوى العلم والعمل لسائر الخلائق وتكميل كل مستعد على قدر استعداده ولما كانت مراتب الناس في الاستعداد متفاوتة في الكمال والنقصان وجب أن يكون المكمل الموصل كل مستعد إلى أقصى نهاية كماله كاملا في القوتين العملية والعلمية أصلا في الكمال إلى أقصى نهاية الكمال البشري ولا يتحقق ذلك مع غير العصمة فوجب أن يكون معصوما وهذا المعنى الموجب مشترك في كل خليفة لله تعالى في أرضه فيجب عموم الحكم لعموم العلة وهذا مقتضي الحكمة الإلهية والخليفة كما يقال على النبي صلى الله عليه وآله يقال على الإمام عليه السلام ولأن النبي لا يعم في كل عصر وهو ظاهر فلو اختص ذلك بالنبي لاختص باللطف بعض الأمة
الثلاثون: إنما سمى الخليفة خليفة لأنه يحكم في الخلق بحكم الله تعالى ويحملهم على أمره ونهيه فهو خليفة الله تعالى وهذا قول ابن مسعود وابن عباس والسدي وأكد ذلك قوله تعالى: (إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق)، وفائدته لا تحصل إلا مع العصمة فوجب عصمته أما الأولى فلأن خلق الشهوات والنفرات في الطبايع البشرية من مكملات التكليف بحيث يحصل الثواب التام بامتثال الأوامر والانزجار عن النواهي وإليه أشار بقوله تعالى: ونهي النفس عن الهوى، ومن الناس من يستصغر الكمال وحصوله في تحصيل مقتضى الشهوة ولا يبالي بحفظ ظاهر نظام النوع ذلك فوجب في الحكمة وضع الخليفة ليقوي القوة العقلية ويساعدها على القوة الشهوية والغضبية ويحمل الناس على المعروف ويزجرهم عن المنكر ويردع القوي عن الضعيف وهذه عناية من الله تعالى لا تختص بأحد بل تعم الخلائق في جميع الأصقاع والبلاد والأزمان ولجميع الأشخاص فالمطلوب منه عصمة غيره لو تمكن من الكل فكيف لا يكون هو معصوما ولا وجه لحاجة المكلف إليه إلا جواز الخطأ عليه فلو جاز عليه الخطأ لاحتاج إلى خليفة آخر ودار أو تسلسل وهو محال لأن من به صلاح كل وجه وفساده يجب أن يكون عاريا عن كل وجوه المفاسد ولأن المراد منه زجر الكل عن كل معصية في كل عصر وفي كل وقت والأمر بالطاعات كذلك فلا بد وأن يكون معصوما وهو ظاهر، وأما المقدمة الثانية فلأنه إذا لم يكن معصوما انتفت فائدته وفعل الحكيم إذا كان لغرض وتوقف الغرض على شرط من فعله ولم يفعله لا شك أنه يكون ناقضا لغرضه وهو مضاد لحكمته وأيضا الخليفة أمين مخلوف على الأديان والدماء والأموال فلو جاز عليه الخطأ والخيانة امتنع من الحكيم جعله أمينا وأمرنا باتباعه وهو ظاهر وهذه الأدلة مستفادة من كلام الشيخ محمد بن بابويه من الإمامية رحمه الله تعالى.
الحادي والثلاثون: علي عليه السلام أفضل من الملائكة والملائكة معصومون والأفضل من المعصوم معصوم فعلي عليه السلام معصوم، أما
فنقول: إنه عليه السلام أفضل من آدم وآدم أفضل من الملائكة فالنبي أفضل من الملائكة، أما المقدمة الأولى فإجماعية وأما المقدمة الثانية فلأن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم والمسجود له أفضل من الساجد وهو ضروري وأما اتحاد نفس علي ونفس النبي بمعنى اتحادهما في الكمالات فبقوله تعالى:
(وأنفسنا وأنفسكم) والإجماع على أن المراد بقوله أنفسنا علي عليه السلام وأما المقدمة الثانية وهي أن الملائكة معصومون فلوجوه:
الأول: قوله تعالى: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون).
الثاني: قوله تعالى: (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) يتناول جميع فعل المأمورات وترك المنهيات لأن النهي عن الشئ يستلزم الأمر بتركه.
فإن قيل: ما الدليل على قوله ويفعلون ما يؤمرون يفيد العموم؟
قلنا: لا شئ من المأمورات إلا ويصح استثنائه منه والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل على ما بيناه في أصول الفقه ولأنه صفة مدح فلولا العموم لشاركوا من عداهم في ذلك فلم يكن لاختصاصهم بصفة المدح فائدة.
الثالث: قوله تعالى: ((بل عباد مكرمون) (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعلمون)) صريح في براءتهم عن المعاصي وكونهم في كل الأمور تابعين للأمر الإلهي والوحي.
الخامس: إنه تعالى حكي عنهم أنهم يسبحون الليل والنهار ولا يفترون ومن كانوا كذلك امتنع صدور المعصية منهم وأما المقدمة الثالثة وهي أن الأفضل من المعصوم معصوم فظاهرة وقد نبه الله تعالى عليها بقوله تعالى:
(إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وإذا ثبت أن عليا عليه السلام معصوم وجب أن يكون كل إمام معصوما إذ لا قائل بالفرق.
اعتراض: إن المقدمة الثانية قدح فيها جماعة من الحشوية وتكلموا فيها بالمنع والنقض والمعارضة أما المانع فلا نسلم عصمة الملائكة وما ذكرتموه من الأدلة أما أولا فإنه مختص بملائكة النار وباقي الأدلة يمنع عمومه في كل الملائكة وأما النقض فبقصة هاروت وماروت فإنهما ملكان وقد وجد منهما الذنب وإلا لما عاقبهما الله تعالى حيث خيرهما بين عذاب الدنيا والآخرة فاختارا عذاب الدنيا عاجلا فجعلهما ببابل منكوسين في بئر إلى يوم القيامة وهما يعلمان الناس السحر ويدعوان إليه ولا يراهما أحد إلا من ذهب إلى ذلك ليعلم السحر وأما المعارضة فبوجوه الأول قوله تعالى حكاية عنهم:
(أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) فهذا يدل على أنهم اعترضوا على الله تعالى وذلك من أعظم الذنوب ولأن طعنهم على بني آدم بالفساد غيبة والغيبة ذنب ولأنهم إما أن يكونوا قد علموا ذلك بالوحي أو بالاستنباط والأول ينفي فائدة إعادته عليه تعالى والثاني يستلزم القدح في الغير بالظن ولا يجوز الثاني قوله تعالى: (وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة). فدل هذا على أن الملائكة معذبون لأن أصحاب النار إنما يكون من يعذب فيها كما قال الله تعالى: (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) الثالث إن إبليس كان من الملائكة المقربين ثم عصى وكفر وذلك يدل على صدور المعصية من جنس الملائكة هذه خلاصة كلام الحشوية والجواب منه أما المنع فهو باطل لأنا استدللنا على عصمة الملائكة والقرآن مشحون به والعقل دل على أنهم خير محض حتى ذهب بعضهم أنهم خير
الأول: قرأ الحسن الملكين بكسر اللام وهو مروي عن الضحاك وابن عباس ثم اختلف هؤلاء فقال الحسن: كانا عجلين اقليين ببابل يعلمون الناس السحر وقيل كانا رجلين صالحين من الملوك فيرد على هذه القراءة تفسير قوله أنزل فقال بعضهم بمعنى قدر قالت الجبرية من القضاء والقدر وقال بعضهم القضاء عبارة عن وجود جميع الموجودات في العالم العقلي مجتمعة ومجملة على سبيل الابداع والقدر عبارة عن وجودها في موادها الخارجية أو بعد حصول شرائطها متصلة واحد بعد واحد قال الله تعالى: (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر) والجواهر العقلية توجد في القضاء والقدرة مرة واحدة باعتبارين والجسمانية وما معها موجودة فيهما مرتين واحتج من قرأ بكسر اللام بوجوه أحدها أنه لا يليق بالملائكة تعليم السحر وثانيها كيف يجوز إنزال الملكين مع قوله: (ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون) وثالثها لو أنزل لكان أما أن يجعلهما في صورة رجلين أولا فإن كان الأول مع أنهما ليسا برجلين لكان ذلك تخييلا وتلبيسا وذلك غير جايز ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكون كل واحد من الناس الذين نشاهدهم لا يكون في الحقيقة انسانا بل ملكا من الملائكة وإن كان الثاني فهو باطل لقوله تعالى:
(ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا). وفي هذه الوجوه كلام يليق بعلم الكلام ذكرناه في النهاية فلا نطول بذكره هنا.
الثاني: أن قوله: (وما أنزل على الملكين) موضعه جر عطفا على ملك سليمان وتقديره ما تتلوا الشياطين اقرأ على ملك سليمان وعلى ما أنزل
الثالث: أن يكون ما بمعنى الجحد ويكون معطوفا على قوله وما كفر سليمان كأنه قال لم يكفر سليمان ولم ينزل على الملكين السحر لأن السحرة كانت تضيف السحر إلى سليمان وتزعم أنه مما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت فرد الله عليهم في القولين وقوله وما يعلمان من أحد جحد أيضا أي لا يعلمان أحدا بل ينهيان عنهما أشد النهي وأما قوله تعالى حتى يقولا إنما نحن فتنة أي ابتلاء وامتحان فلا تكفر وهو كقولك ما أمرت فلانا بكذا حتى قلت له لا تفعل ونهيته أو حتى قلت له إن فعلت كذا نالك كذا ومعناه ما أمرته حتى حذرته عنه.
الرابع: إن إنزال السحر لتعليم صفته لأنه منهي عنه والنهي عن الشئ يستلزم معرفته على تعليم السحر وجعله كفرا لقوله تعالى ولكن الشياطين لاستحالة تكليف الله تعالى شخصا بأن يجتنب شيئا مجهولا مطلقا لأنه يكون تكليفا بالمحال فإن النهي عن الشئ يستلزم العلم به، لا يقال: إنه تعالى ذم الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر لأنا نقول الشياطين علموا الناس
الخامس: السحر لفظ مشترك بين معنيين أحدهما ما دق ولطف وتعجب منه العقول والأذهان بقوله إن من البيان لسحرا، ثانيهما ما يذم فاعله وهو كل أمر يخفي سببه ويتخيل على غير حقيقته ويجري مجرى التمويه والخداع وإذا أطلق ولم يقيد أفاد ذم فاعله تعالى وسحروا أعين الناس - يعني موهوا عليهم - فالمنزل على الملكين جاز أن يكون من القسم الأول وهو اختيار بعض الأصوليين.
السادس: إنه تعالى أنزل علم السحر ابتلاء من الله للناس من تعلمه وعمل به كان كافرا ومن تعلمه لئلا يعمل به ويجتنبه ويحترز منه وليتوقاه ولئلا يغتر به كان مؤمنا كما قيل عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه كما ابتلى الله تعالى قوم طالوت بالنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني، وهذا الوجه هو اختيار المعتزلة، والجواب عن المعارضة أما عن الأول فبمنع إنهم أرادوا الاعتراض عليه تعالى بل طلبا لتعلم الشرفي خلق بني آدم مع صدور الشرور منهم لأن الحكيم إذا علم باشتمال فعل على مفسدة لا يصدر منه ذلك الفعل إلا لحكمة عظيمة ومصلحة تامة تستحقر في الحكمة تلك المفاسد بالنسبة إلى وجود المصالح فأراد الملائكة بسؤالهم أن يعلمهم الله تعالى بتلك الحكمة وأيضا فإن إيراد الاعتراض لمعرفة الجواب وحل وجه الإشكال والشبهة ليس بقبيح ولا يشتمل على إنكار وأيضا فإن سؤالهم كان ولا يشتمل على إنكار وأيضا فإن سؤالهم كان على وجه المبالغة في إعظام الله تعالى فإن العبد المخلص لشدة حبه لمولاه يكره أن يكون له عبد يعصيه ولم يذكروا ذلك عن بني آدم غيبة لهم بل لما كان محل الإشكال في خلق بني آدم إقدامهم على الفساد وسفك الدماء ومن أراد إيراد السؤال وجب أن يتعرض لمحل الإشكال لا لغيره فلهذا السبب ذكروا من صفات بني آدم هاتين الصفتين قوله إما أن يكون قد علموا ذلك بالوحي أو بالاستنباط قلنا جاز أن يكون الوحي وجاز أن يكون بالالهام وإعارته عليه تعالى على سبيل الاستفادة كما قررنا فلا محذور وعن الثاني أن قوله تعالى: (وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة) لا
الثاني والثلاثون: الإمام أفضل من أنبياء بني إسرائيل أو مساو لهم وأنبياء بني إسرائيل أفضل من الملائكة فالإمام أفضل من الملائكة بطبقتين والملائكة قد وصفهم الله تعالى ومدحهم بصفات:
إحديها: إنهم لا يعلمون إلا بالنص لقوله تعالى: (لا علم لنا إلا ما علمتنا)، وقال: لا يسبقونه بالقول.
وثانيها: إنهم لا يعلمون شيئا إلا بأمره تعالى لقولهم وهم بأمره يعملون وهذه الصفة في العرف العام إنما تستعمل في كل من فعله بأمره تعالى ولا يهمل من أمره شيئا.
وثالثها: إنهم لا يعصون الله ما أمرهم كما قال تعالى هذه صفات العصمة فهم معصومون فيكون الأفضل من المعصوم معصوما فأنبياء بني إسرائيل معصومون فالإمام أولى بالعصمة لأنه أفضل من الأفضل من المعصوم أو مساو له أما المقدمة الأولى فلقوله عليه السلام: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل والإمام أفضل من كل العلماء أو مساو لهم فهو أفضل من أنبياء بني إسرائيل أو مساو لهم وأما المقدمة الثانية فلقوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحا) الآية والعالم كل ما سوى الله تعالى وذلك لأن اشتقاقه من العلم وكل ما كان علما على الله ودليلا عليه فهو عالم ولا شك أن كل محدث فهو دليل على الله تعالى محدث فهو عالم فقوله إن الله اصطفى الآية معناه إنه تعالى اصطفاهم على كل المخلوقات ولا شك أن الملائكة من المخلوقات فهذه الآية الكريمة تقتضي إنه تعالى اصطفى هؤلاء الأنبياء على الملائكة، وأما المقدمة الثالثة فلما بينا، وأما المقدمة الرابعة فضرورية واعترض الإمام فخر الدين الرازي على المقدمة الثانية بأن الكلية منقوضة بقوله تعالى: (يبني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وإني فضلتكم على العالمين) فإنه
والجواب: إن هذا الإشكال مدفوع لأن قوله تعالى:
(وإني فضلتكم على العالمين) خطاب للأنبياء الموجودين في ذلك الزمان وحين ما كانوا موجودين لم يكن محمد صلى الله عليه وآله موجودا في ذلك الزمان ولما لم يكن موجودا لم يكن من العالمين لأن المعدوم لم يكن من العالمين وإذا كان كذلك لم يلزم من اصطفاء الله تعالى إياهم على العالمين في ذلك الوقت أن يكونوا أفضل من محمد صلى الله عليه وآله فأما جبرائيل عليه السلام فإنه كان موجودا حين قال الله تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) فيلزم أن يكون قد اصطفى هؤلاء على جبرائيل وأيضا فهب أن تلك الآية قد دخلها التخصيص لقيام الدلالة وهاهنا لا دليل يوجب ترك الظاهر فوجب اجراؤه على الظاهر في العموم وقد عرفت من ذلك الجواب عن الالزام بأن مريم قد اصطفاها الله على نساء العالمين ولم تكن أفضل من فاطمة عليها السلام فإن فاطمة عليها السلام لم تكن موجودة في ذلك الزمان وتمام التقرير كما مر.
الثالث والثلاثون: قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وهذه العبارة تدل لغة على الحصر ونصب إمام قائم مقام النبي صلى الله عليه وآله بعد لطف ورحمة بل هو أعظم من بيان التكاليف الجزئية والمندوبات والمكروهات الأقلية لأنه أمر كلي فإخلاله به ينافي الرحمة فيجب عليه نصب الإمام ودعوة المكلفين إلى طاعته وتحذيرهم من معصيته ولأن أمره قائم ودعوة المكلفين إلى طاعته وتحذيرهم من معصيته ولأن أمره قائم مقام أمر النبي صلى الله عليه وآله فهو أفضل من كل الأمة فيجب أن يكون معصوما لأن تسليم الأمة كلهم أمرهم ونهيهم وفعلهم وتركهم إلى شخص واحد غير معصوم ينافي الرحمة فهو معصوم فالإمام معصوم.
الخامس والثلاثون: هذه الآية تدل على عصمة النبي صلى الله عليه وآله لأن عدم عصمة من إرساله ينحصر في الرحمة ينافي هذا الغرض فيكون محالا.
السادس والثلاثون: الإمام قائم مقام النبي صلى الله عليه وآله فيما أرسل فيه فيكون معصوما وإلا لناقض الغرض فما في هذه الآية تدل على أنه عليه السلام أفضل من العالمين والملائكة من العالمين فيكون محمد صلى الله عليه وآله أفضل منهم وعلي نفس النبي لقوله تعالى: (وأنفسنا وأنفسكم) والاتفاق على أنه المراد به علي عليه السلام فهو أفضل من الملائكة والملائكة معصومون والأفضل من المعصوم معصوم فعلي عليه السلام معصوم وكلما كان علي معصوما كان الإمام مطلقا معصوما لأنه لا قائل بالفرق فكل إمام معصوم وهو المطلوب.
السابع الثلاثون: الملائكة معصومون لقوله تعالى: (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) وعلي عليه السلام أفضل من الملائكة لما تقدم فيكون علي " ع " معصوما لأن الأفضل من المعصوم معصوم بالضرورة.
الثامن والثلاثون: الله تعالى خلق الملائكة عقولا بلا شهوة وخلق للبهايم شهوات بلا عقل وخلق الإنسان وجمع فيه بين الأمرين فصار الآدمي بسبب العقل فوق البهيمة بدرجات لا حد لها وصار بسبب الشهوة دون الملائكة ثم وجدنا الآدمي إذا غلب هواه عقله حتى يعمل بهواه دون عقله يصير دون البهيمة كما قال الله عز وجل: (أولئك كالأنعام بل هم أضل) فلذلك صار مصيرهم إلى النار دون البهائم فيجب أنه إذا غلب عقله هواه حتى صار لا يعمل بهوي نفسه شيئا بل يعمل بهوي عقله أما أن يكون فوق الملائكة أو مساويا لهم اعتبارا لأحد الطرفين بالآخر إذا تقرر ذلك فنقول: إذا أراد الله بأوامره ونواهيه وخلق العقول ليخرج الإنسان من مرتبة
التاسع والثلاثون: قوله تعالى في سورة يونس: (إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدؤا الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط) أي بالعدل وهو متعلق بيجزي والمعنى ليجزيهم بقسطه أو يوفيهم أجورهم بقسطهم وبما أقسطوا وعدوا ولم يظلموا حين آمنوا وعملوا الصالحات لأن الشرك ظلم لقوله تعالى: (إن الشرك لظلم عظيم) والعصاة ظلام أنفسهم وهذا أوجه لمقابلة قوله بما كانوا يكفرون فنقول هذه الآية تدل على وجوب نصب إمام معصوم وأنه لا يخلو زمان فيه مكلفون غير معصومين منه وتقريره يتوقف على مقدمات:
الأولى: إنه جعل عناية خلق الخلق وإعادتهم أن يجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط أي بالعدل.
الثانية: إن الغاية في كل فعل أعظم وأشرف من ذي الغاية وهو مبرهن في علم الإلهي بل قريب من البين.
الثالثة: بدؤ الخلق وإعادته أمرعظيم فيكون إيصالهم إلى جزائهم من الثواب على فعلهم أعظم ومن مقدمات هذا الاكرام والمفضال العظام نصب الإمام المعصوم الذي يفيد قوله العلم يتمكن المكلف من عمل الصالحات يقينا ويخرج عن الشك ولأنه ذكر الجزاء على أمرين أحدهما الإيمان وهو من فعل القوة النظرية والثاني عمل الصالحات وهو من فعل القوة العملية والإنسان يحتاج فيهما إلى موصل له إليهما ففي طرف القوة النظرية الفعلية القضايا البديهية والضرورية المحتاجة إلى الحواس الظاهرة والباطنة فوهبه الله
الأربعون: إذا كان الحكيم قد خلق وكلفهم وأعادهم لأجل جزائهم على الإيمان وعمل الصالحات ولم ينصب لهم معصوما يفيد قوله اليقين نقض غرضه ونقض الغرض باطل.
الحادي والأربعون: قوله تعالى: (أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر
الناس) الانذار يقتضي وضع الله تعالى في الأحكام جميعا لأنه تعالى يعلم ما
كان وما يكون إلى انقراض العالم فلا بد في كل واقعة أن ينصب حكما فأوجب
على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الانذار للمكلفين بجميع الأحكام
وذلك يحتاج ولا يتم فائدته إلا بإمام معصوم في كل زمان لوجوه أحدها: إن
الإمام لطف في التكليف وهو الانذار وهو من فعله تعالى واللطف في التكليف
الواجب واجب وهذا على رأي المعتزلة وثانيها إن عقولنا لا تستقل باستخراج
جميع الأحكام الواقعة في كل زمان من الكتاب العزيز والسنة وهو ظاهر
للاختلاف الواقع ولأن أكثر النظر فيها لاستخراج الأحكام يفيد الظن فلا بد
وأن يكون من جملة من ينذره النبي صلى الله عليه وآله شخص ذو نفس
قدسية وقوة الهامية يعلمه النبي صلى الله عليه وآله طريقا باستخراج الأحكام من الكتاب
والسنة يقينا ويقرر عنده قوانين كلية تفيده العلم القطعي بتفصيل الأحكام
ويكون حافظا لذلك وليس ذلك إلا المعصوم، وثالثها إن غاية الانذار العمل
والمؤدي إلى الغاية منهم كما أن سبب الانذار منهم والمؤدي إليه الحامل عليه
فإن القوى الشهوية تعارض القوى العقلية في أكثر الناس والحامل عليه هو