الصفحة 74
فلأن الإمام عبارة عن شخص يؤتم به، أي يقتدي به كما أن اسم الرداء لما يرتدي به واللحاف لما يلتحف به، وأما الاجماع فلأنه لا خلاف أنه يجب على كل واحد من الناس قبول حكم الإمام واتباعه في جميع الأحكام وفي جميع سياسته، وأما العقل فلأنه يجب اتباع الإمام قطعا وقبول حكمه، أما أن يكون بمجرد قوله أو لدليل دل على ذلك أو لا لقوله ولا لدليل دل عليه لا جايز أن يقال إنه لا لقوله ولا لدليل دل عليه بالضرورة ولا جايز أن يقال لدليل دل عليه لوجوب اتباعه على غير المجتهد ولا يتحقق عليه دليل ولأنه لا فايدة حينئذ في توسط قوله فتعين أن يكون بمجرد قوله، فلو جاز عليه الخطأ فبتقدير إقدامه على الخطأ، أما أن يقال: بوجوب اتباعه والأمر من الله تعالى بالاقتداء به، أولا يقال ذلك، فإن كان الأول لزم كونه آمرا بالخطأ وهو محال، وإن كان الثاني فقد خرج الإمام في تلك الحالة عن كونه إماما، فيلزم منه خلو ذلك الزمان عن الإمام وهو محال.

الثالث عشر: إنا نعلم بالضرورة بعثة النبي صلى الله عليه وآله وتكليف الناس في كل زمان باتباع ما جاء به من الشرايع وذلك موقف على نقلها إلى من بعده، والناقل إما أن يكون معصوما أو غير معصوم، والثاني باطل وإلا لما حصل العلم بقوله فيما ينقله ولا الاعتماد على قوله فتنتفي فايدة التكليف (2) فتعين الأول والمعصوم، أما الإمام أو الأمة فيما أجمعوا عليه أو أهل التواتر فيما نقلوه لا غير، فالقول بمعصوم خارج عن هؤلاء الثلاثة قوله لا

____________

(1) فإذا انتهت الحاجة إلى المعصوم كان المعصوم غنيا عن غيره، فيكون فوق الجميع، وهو الرئيس ومن سواه مرؤوسا.

(2) نعم إلا أن يكون كل حكم من الشريعة يرويه عدة ثقات يحصل من روايتهم اليقين بالحكم، دون أن يعارض روايتهم ثقات آخرون، وأين هذا في الشريعة؟ وإن وجد ففي أحكام نادرة.


الصفحة 75
قائل به ولا يجوز أن يكون مستند علم من بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشريعته انعقاد الاجماع من الأمة عليه، فإن عصمة الأمة عن الخطأ إنما تعرف بالنصوص الواردة على لسان الرسول بالكتاب أو السنة، وكل نص يدل على كون الاجماع حجة فلا بد من معرفة كونه منقولا عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لا ناسخ له ولا معارض، وكان أيضا يتوقف على صدق الناقل له وصدقه، أما أن يكون معلوما بالاجماع أو غيره، فلو كان الاجماع لزم الدور من حيث إنا لا نعرف صدق الخبر الدال على صحة عصمة أهل الاجماع إلا الاجماع، وعصمة أهل الاجماع لا تعرف إلا بعد معرفة صدق ذلك الخبر، لأن الاجماع إنما هو حجة باشتماله على قوله المعصوم، لأنه لولاه لكان جواز الكذب لازما لكل واحد، ولازم الجزء لازم للكل، وقد بينا في الأصول ضعف أدلتهم على كون الاجماع حجة (1) ولأن المسائل الاجماعية قليلة في الغاية، ولأنه لا يمكن أن يحتج به على الغير (2) وإن كان بغير الاجماع، فإما بالتواتر أو بغيره، لا جايز أن يكون بالتواتر، فإن غاية التواتر معرفة كون ذلك الخير منقولا عن النبي صلى الله عليه وآله وليس فيه ما يدل على أنه ليس بمنسوخ ولا معارض فلا يفيد كون الاجماع حجة فلم يبق إلا الإمام وهو المطلوب، وبهذا بطل كون التواتر مفيد للأحكام، ولأنه لم يكن عند النبي صلى الله عليه وآله أظهر من الإقامة لوقوعها في كل يوم خمس مرات على رؤوس الأشهاد، ولم يثبت بالتواتر فصولها لوقوع الخلاف فيها (3).

الرابع عشر: إنه لو لم يكن الإمام معصوما فبتقدير وقوعه في المعصية إما أن يجب الانكار عليه أو لا يجب، فإن وجب الانكار عليه لزم الدور من جهة توقف زجر الإمام على زجر الرعية وزجر الرعية على زجر الإمام، ولوقوع الهرج المحذور منه، وإن لم يجب الانكار عليه، فهو ممتنع لقوله صلى الله عليه وآله من رأى منكرا فلينكره، ولوجوب إنكار المنكر بالاجماع.

____________

(1) إذ لا دليل على حجية الاجماع من حيث هو إجماع من كتاب أو سنة ولو قيل: إن دليله إجماع القوم على حجيته، لقلنا: إنه يستلزم التسلسل، فإنه أي دليل علي عليه على حجية إجماعهم الأول، ولو قيل: إن حجيته حصول العلم منه لقلنا: إن الحجة العلم حينئذ لا نفس الاجماع، فلو لم يحصل منه العلم فلا حجية فيه.

(2) فإن حجية الاجماع عند فرقة لا يكون حجية على خصومهم إلا أن يعترف الجميع بحجيته على أي حال وإن حصل عند فرقة دون أخرى، وأين من يعترف بذلك؟

(3) على أن التواتر على حكم من الأحكام عند فرقة لا يكون حجة على غيرهم من الفرق.


الصفحة 76
الخامس عشر: اختلفت الأمة في مسائل ليست في كتاب الله تعالى ولا السنة المتواترة ولا إجماع عليها، والقياس ليس بحجة لما بين في الأصول وأخبار الآحاد لا تصلح لإفادة الشريعة لقوله تعالى: * (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) * فلا بد من معصوم يعرف الحق والباطل وذلك هو الإمام.

السادس عشر: إن القرآن إنما أنزل ليعلم ويعمل به، وهو مشتمل على ألفاظ مشتركة مجملة لا يعرف مدلولها من نفسها وآيات معارضة وآيات متشابهة، وقد وقع الاختلاف فيها بين المفسرين ولا سبيل إلى معرفة الحق منها بقول غير المعصوم إذ ليس قول أحد غير المعصومين أولى من الآخر، فلا بد أن يكون المعرف لذلك معصوما وهو الإمام.

السابع عشر: إن الله عز وجل هو الناصب للإمام ومن يعلم فساده نصبه قبيح عقلا والله تعالى لا يفعل القبيح فلا بد أن يكون الإمام معصوما.

الثامن عشر: قوله تعالى: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) * وكل من أمر الله تعالى بطاعته فهو معصوم لاستحالة إيجاب طاعة غير المعصوم مطلقا لأنه قبيح عقلا (1).

التاسع عشر: الإمام لو لم يكن معصوما لكان إما عاميا أو مجتهدا، والأول محال وإلا لما وجب على المجتهد طاعته ولنقص محله من القلوب ويستحيل من الله تعالى الأمر بطاعة العامي أيضا، ولم يجب أيضا على العامي طاعته لعدم الأولوية، والثاني محال وإلا لم يجب على المجتهدين غيره اتباعه لعدم الأولوية وتخير العامي بين قوله وقول غيره من المجتهدين فلم يبق فائدة في نصبه.

____________

(1) على أنه لو ارتكب معصية أو أمر بها لوقع التعارض بين وجوب طاعته ووجوب زجره، لعموم أوامر النهي عن المنكر للإمام والرعية، فإن رجحنا أوامر الطاعة جوزنا له وللأمة ارتكاب المعاصي، فأين حفظ الشريعة؟ وإن رجحنا أوامر النهي عن المنكر، ونهيناه عن المنكر وعصينا أمره بالمنكرات، فما فائدة الإمامة؟ وأين المصلحة من نصب الإمام؟

الصفحة 77
العشرون: قوله تعالى: * (اهدنا الصراط المستقيم صرط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) وغير المعصوم ضال (1) فلا يسأل اتباع طريقة قطعا، فتعين أن يكون هنا معصومون، والهداية إنما هي العلم بطريقهم لا بالظن وهو نقلي والناقل له أيضا معصوم والإجماع والتواتر غير متحقق، إذ السؤال الإمام إنما هو اتباعهم في جميع الأحكام، والإجماع والتواتر لا يفيدان ذلك فليس إلا الإمام فإنه إذا كان قوله تعالى: * (الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * إشارة إلى الأنبياء، فالهداية إلى طريقهم بطريق علمي إنما هو من المعصوم في كل زمان إذ لا يختص هذا الدعاء بقوم دون قوم، وإن كان إشارة إلى الأنبياء والأئمة عليهم السلام فالمطلوب أيضا حاصل.

الحادي والعشرون: قوله تعالى: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطن إلا من اتبعك من الغاوين) * هذه نكرة منفية فتعمم للاستثناء، فيلزم من ذلك نفي كل سلطان للشيطان على قوم خاصة (2) في جميع الأوقات إذ كل من صدر منه ذنب في وقت ما كان للشيطان عليه سلطان في الجملة، وهو ينافي

____________

(1) لا بد من تأويل الظاهر من هذا الكلام، لأنه لا يمكن أن يحكم على كل من ليس بمعصوم إنه ضال لاستلزام ذلك ضلالة من عدا المعصوم من أبناء الإسلام عامة حتى من اتبع المعصوم، وهذا لا يلتزم به حتى المصنف طاب رمسه، فاحسب أنه أراد ضلالة كل من ليس بمعصوم ممن لم يتبع المعصوم ولم يعمل بقوله ويأخذ بطريقته، فإنه يخالف بذلك الشريعة في كثير من أحكامها ونظامها، وهذا عين الضلالة.

(2) يمكن أن يقال: إن نفي السلطان لا يستلزم العصمة، فإن العادل الذي لم يرتكب ذنبا غير معصوم مع أنه ليس للشيطان عليه سلطان، على أن مرتكب الذنب خطأ لا يخرج عن كونه ممن ليس للشيطان عليه سلطان، فإن الاستثناء لم يخرج إلا الغواة وجعل تعالى عنوانهم التابعين للشيطان ومرتكب الخطيئة سهوا وغفلة لا يعد من أتباع الشيطان الغواة على أن الاستثناء بإخراج الغواة جعل العباد قسمين غواة وهم أتباع الشيطان، وهداة وهم الذين لم يكن للشيطان عليهم سلطان، فإذا كان هؤلاء هم المعصومين خاصة كان كل من عداهم إذن غواة، ولا يمكن أن يلتزم حتى المصنف طاب ثراه بأن الناس بين معصوم وغاو حتى من اتبع المعصوم.


الصفحة 78
قوله (ليس لك عليهم سلطان) ويدل هذا على عصمة قوم من ابتداء وجودهم إلى آخر عمرهم من الصغاير والكباير عمدا وسهوا وتأويلا وكل من أثبت ذلك أثبت عصمة الإمام إذ لم يقل أحد بعصمة الأنبياء من أول عمرهم إلى آخر عمرهم من جميع الصغاير والكبائر عمدا وسهوا وتأويلا إلا وقال بعصمة الإمام كذلك، ومن نفى عصمة الإمام لم يقل بذلك، فالفرق قول ثالث خارق للإجماع.

الثاني والعشرون: قوله تعالى (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي)، وقد لا يهدي مع أنه يهدى، فيكون الانكار على اتباعه أولى، فغير المعصوم لا يجوز اتباعه، والإمام يجب اتباعه، فلا شئ من غير المعصوم بإمام وهو المطلوب.

الثالث والعشرون: قوله تعالى: الذين أنعمت عليهم) المراد بالنعمة هنا العصمة إذ سؤال اتباع طريقهم التي أنعم الله تعالى عليهم بها يدل على ذلك إذ طريقهم هي الصراط المستقيم، وإنما يوصف بذلك ما هو صواب دائما، ويستحيل عليه الخطأ ولا شئ من غير المعصوم كذلك، إذ طريقه ليست بمستقيمة دائما، فدل على أن كل متبوع طريقه كذلك، وكل متبوع معصوم، والإمام متبوع فيجب أن يكون معصوما.

الرابع والعشرون: قوله تعالى (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) المراد منه أن لا يكون لأحد الناس شئ من وجوه الحجج، نعم في الناس وهو ظاهر وفي الحجة لأنها نكرة في معرض النفي وإنما يتم ذلك في

الصفحة 79
حق من يأتي بعد عصر الرسول مع عصمة ناقل الشرع، وقائم مقام الرسول في جميع ما يراد منه سوى النبوة، ولا يتحقق ذلك إلا مع عصمة الإمام.

فيجب عصمة الإمام، لا يقال نفي الحجة بعد مجئ الرسول، فلا يتوقف على إمام معصوم وإلا لزم التناقض لأنه لو لم يكن إمام معصوم يثبت الحجة بقولكم لكنها منفية بالآية والزمان واحد فشرائط التناقض متحققة، لأنا نقول الإمام المعصوم لازم بإرشاد الرسول للوجه المذكور وذكر الملزوم ووجه الملازمة كاف، لأن قوله تعالى بعد الرسل هو قوله بعد الإمام المعصوم أو ملزومة، ولأنه ليس المراد بعد مجئ الرسول بمجرده، بل المراد بعد الرسول وإتيانه بجميع الشريعة وتقريرها وإظهارها وجميع ما يتوقف إيصالها عليه والعلم بها والعمل، ورأس ذلك وأهمه الإمام المعصوم لأنه هو المؤدي للشريعة وبه يعلم ولا تناقض لاستحالة مجئ الرسول ووفاته وخلو الزمان من إمام معصوم وإلا لثبتت الحجة (1).

الخامس والعشرون: قوله تعالى (من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وجه الاستدلال من وجهين الأول: إن نفي الخوف ونفي الحزن على وجهين، أحدهما: لعدم الالتفات وعدم التصديق وهو من باب الجهل. وثانيهما للعلم بالنجاة واليقين من صحة العبادات والأحكام التي أتى بها واعتقدها، والعلم بالطاعات والمعاصي والأحكام بالوجه اليقيني والإتيان بها وليس المراد " الأول " لأنه تعالى ذكره على سبيل المدح والأول يقتضي الذم فتعين الثاني فلا بد من طريق إلى معرفة ذلك وليس الكتاب لاشتماله على المتشابهات والمشتركات ولا السنة لذلك (2) فتعين أن يكون الطريق هو قول المعصوم فإنه

____________

(1) وإيضاحه أن نقول: إن الله تعالى حينما بعث الرسول بالشرايع أراد من الأمم العمل بها كاملة كما صدع بها الرسل دون تأويل وتبديل، والناس لو تركوا - وأنفسهم لاختلفوا في أحكام تلك الشرايع قطعا، وشاهده شريعة خاتمهم نبيا صلى الله عليه وآله ولا بد في الاختلاف من المخالفة، وهو سبحانه لا يريد منهم إلا الموافقة فإذا خالفوا - وليس لهم دليل - لا تقوم له سبحانه عليهم الحجة، بل لهم الحجة عليه إذا أقامهم للسؤال، فإنه لم ينصب لهم هاديا ودليلا، والناس لا تتحد فهما وصلاحا ونوايا، ومن ثم إن ينصب لهم إماما يوضح لهم أحكام الشريعة ويحفظها عن كل تلاعب وتصرف، وبه تكون لله الحجة البالغة على الناس، ولا تكون لهم عليه تعالى الحجة، ولولا الإمام المعصوم لثبتت الناس الحجة واضحة عليه تعالى (2) على ما في مفادهما من اختلاف الأمة، وعدم وفائهما بجميع الأحكام وما هذا الاختلاف، وكل يدعي أن مدركه الكتاب والسنة، إلا لإمكان الجدال والنظر في المفاد.


الصفحة 80
يعلم متشابهات القرآن ومجازاته، والألفاظ المشتركة فيه، ما المراد بها يقينا، ويعلم الأحكام يقينا وللعلم بعصمته يحصل الجزم بقوله، الثاني قوله تعالى:

* (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * نكرة منفية فتكون للعموم ونفي الخوف والحزن إنما هو بتيقن نفي سببهما، ومع عدم الإمام المعصوم في زمان ما لا يحصل لأهل ذلك الزمان تيقن انتفاء سببهما إذ غير المعصوم يجوز أمره خطأ بالمعصية ونهيه عن الطاعة، وجميع الأحكام لا تحصل من نصر القرآن ولا من نص السنة المتواترة، لكن في كل زمان يمكن نفيه فوجب الإمام المعصوم في كل زمان (1).

السادس والعشرون: قوله تعالى: * (آلم ذلك الكتب لا ريب فيه هدى للمتقين) نقول: هذا يدل على وجود المعصوم في كل زمان من وجهين، أحدهما: إن نكرة منفية فيعم فيلزم انتفاء الريب والشك عنه من جميع الوجوه، وهو عام في الأزمنة أيضا وغير المعصوم لا يعلم جميع مدلولات القرآن يقينا بحيث لا يحصل له ريب ولا شك في وجه دلالة من دلالات ألفاظه ولا معنى من معانيه ولا في شئ مما يمكن أن يتناوله أو يراد منه، لكن قد دللنا على وجود من لا ريب عنده في شئ منها ويكون اعتقاده مطابقا لأنه ذكره في معرض المدح في كل زمان، فدل على وجود المعصوم فيه، وثانيهما:

أنه يمكن معرفته في كل وقت، ولا يمكن يقينا إلا من قول المعصوم وهو ظاهر.

السابع والعشرون: قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) * وجه

____________

(1) وذلك ظاهر، لأن النصوص الكتابية التي لا خلاف فيها قليلة جدا، وكذا المتواتر من السنة، ومن ثم يكون الخلاف مستمرا في كل زمان، ولا رافع له إلا الإمام المعصوم في كل زمان، وأما غير المعصوم فلا يرفع الخلاف، بل قد يزيد فيه فيما إذا زعم أنه من أرباب الاجتهاد فإنه يزيد رأيا إلى الآراء فالاختلاف في الشريعة قضى بأن تكون شرائع عديدة لا شريعة واحدة، ولكثرة الاختلاف فيها نقطع بمخالفة بعضها لما جاء في الشريعة.


الصفحة 81
الاستدلال به أنه يقتضي ذم من يفسد في الأرض وهو يعتقد أنه مصلح خطأ، ويستلزم النهي عن اتباعه إذ متبعه يوجد هذا المعنى فيه فيكون مذموما، ويجب الاحتراز عن متابعة من يمكن وجود ذلك منه لاشتمال اتباعه على الخوف والضرر المظنون ودفعهما واجب، وغير المعصوم يجوز منه ذلك، بل يكون إمكان فعله وعدمه متساويين إذ داعي الأمر وصارف النفي غير موجبين، ويعارضهم دواعي الشهوة والغضب وهما يقتضيان الترجيح كالأولين فيتعارض الأسباب بل يترجح كثيرا (1). الثانية في غير المعصوم، فيجب ترك اتباع غير المعصوم (2) ولا شئ من الإمام يجب ترك اتباعه لوجوب اتباعه فكان يلزم اجتماع الضدين وهما ينتجان من الثاني لا شئ من غير المعصوم بإمام (3) وهو المطلوب.

الثامن والعشرون: قوله تعالى: * (" وما يضل به إلا الفاسقين " " الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون) * وجه الاستدلال به ما تقدم في الوجه السابق (4).

____________

(1) ويمكن أن نستفيد منها وجها ثالثا، وهو نقول: إن مع هذا الاختلاف في الكتاب وتعدد الآراء في دلالته كيف يكون هدى، ومن ثم ضلت فرق كثيرة من الإسلام مع أن مصدرها الكتاب، وهذه الضلالات لا يريدها اللطيف سبحانه فلا بد أنه جعل للكتاب مبينا ومفسرا يرفع اللبس والريب والشك في تفسيره وبيانه، ويجعل منه الهدى لأهل التقى والصلاح، الذين يريدون فهم - الكتاب حقيقة والعمل فيه دون أهل الزيغ الذين يريدون اتباع المتشابه ويحاولون المنزع للخلاف.

(2) على أن غير المعصوم بفرد واحد حتى نحتمل مطابقة أحكامه وآرائه جميعا للشريعة، بل هم كثر ومختلفون في المشرب والمذهب، وباختلافهم تحصل المخالفة يقينا للشريعة، وبذلك يحصل الفساد، على أنهم يزعمون أنهم مصلحون، ولا يجوز أتباع من يحتمل في أتباعه للفساد، فكيف بمن يعتقد فيه الفساد؟ لأن المفروض أنهم جميعا أئمة يجب اتباعهم وباتباعهم جميعا نقع في المخالفة المنتجة للفساد، ولا نجاة من الفساد إلا باتباع المعصوم.

(3) لأنه إذا قلنا: الإمام يجب اتباعه، ولا شئ من غير المعصوم يجب اتباعه، تكون النتيجة:

لا شئ من غير المعصوم بإمام.

(4) وتقريبه أن نقول: إن هؤلاء الخاسرين كيف نعرف خسرانهم وأنهم يفسدون في الأرض ويخالفون أوامر الله سبحانه؟ فإن الكتاب والسنة لا يوضحان لنا تلك المخالفة التي عليها هؤلاء ما دام لدلالتهما وجوه واحتمالات، وما دام فيهما متشابه، فإذن لا مفر من الضلالة إلا بأن يكون معصوم يعلم التأويل.


الصفحة 82
التاسع والعشرون: قوله تعالى: * (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) * وجه الاستدلال به إن الفعل نكرة وهي في معرض الاثبات يكفي فيها المرة (1) إذ تقرر ذلك فنقول: الإمام مهد دائما وكل مهد مهتد ما دام مهديا، فيكون الإمام مهتديا دائما لإنتاج الدائمة والعرفية دائمة (2) ولا شئ من غير المعصوم بمهتد بالاطلاق لما تقدم، فلا شئ من الإمام بغير معصوم (3) وهو المطلوب.

لا يقال نمنع الصغرى (4) لأنا ذلك يوجب امتناع اتباعه (5) لما تقدم من التقرير.

الثلاثون: قوله تعالى: * (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) * وجه الاستدلال بها يتوقف على مقدمات، الأولى: إن المأمور بأن يبشر غير المبشر وهو ظاهر. الثانية: الألف واللام في الجمع يقتضي العموم، وقد بين ذلك في الأصول. الثالثة: إن لهم يقتضي

____________

(1) أي في إثبات شراء الضلالة، فإنه يثبت أنهم اشتروا الضلالة ولو بالمرة الواحدة.

(2) أما الدائمة المطلقة فهي ما دلت على ثبوت المحمول لذات الموضوع أو سلبه عنه ما دام الموضوع بذاته موجودا، وأما العرفية العامة فهي من الدائمة غير أن الدوام فيها مشروط ببقاء عنوان الموضوع ثابتا لذاته.

فإذا قلنا: الإمام مهد دائما: وكل مهد مهتد ما دام مهديا، كانت النتيجة دائمة أيضا، وذلك بإسقاط المتكرر وهي قوله: الإمام مهتد دائما، ولو أخذنا النتيجة وجعلناها صغرى من الشكل الثاني وقلنا: الإمام مهتد دائما ولا شئ من المعصوم بمهتد بالاطلاق، كانت النتيجة بعد إسقاط المتكرر ما ذكره، وهو قوله: لا شئ من الإمام بغير معصوم.

(3) فلا بد أن ينتج إن الإمام معصوم، لأن الإمام كما سبق هاد مهتد ومن يرتكب الضلالة مرة واحدة يخرج عن الهداية فلا يصلح للإمامة.

(4) وهي قوله الإمام مهد دائما.

(5) فإنه لا يجوز اتباعه إذا كان غير مهد دائما لتجويز الوقوع باتباعه في الضلالة والفساد.


الصفحة 83
الاستحقاق. الرابعة: إن استحقاق الثواب الدائم وعدم العقاب إنما هو بفعل الطاعات وترك المعاصي، وقد بينا ذلك في علم الكلام، وهذه الآية تدل على ذلك من باب الايماء كما تقرر في الأصول. الخامسة: يستحيل وجوب الممكن أو معلوله إلا عند وجوب سببه. السادسة: استحقاق الثواب الدائم مشروط بالموافاة فلا يثبت إلا مع الموافاة عند الوفاة أو قبلها مع وجود سبب الطاعات وسبب ترك المعاصي وإلا لزم أحد الأمرين، أما وجوب الممكن مع عدم سببه أو ثبوت استحقاق الثواب الدائم، وليست العلة ثابتة إذا الموافة الآن لم تثبت لأنها في المستقبل، فلا بد من ثبوت سببها الذي يمتنع معه المعاصي وتجب معه الطاعات باختيار المكلف، لأنه إن لم يجب وجود الطاعات منه ويمتنع المعاصي لزم ثبوت المعلول مع عدم سببه، فإن وجب من غير سبب وجوبه لزم وجوب الممكن مع عدم سببه، وهو محال، وذلك السبب هو العصمة (1) إذا تقرر ذلك فنقول: هذه الآية تدل على وجود المعصوم في كل زمان لأن الأمر بالبشارة يقتضي وجود المبشر لاستحالة بشارة المعدوم، ويكون مغايرا للنبي صلى الله عليه وآله للمقدمة الأولى

____________

(1) يمكن أن يقال إن السبب أعم من العصمة وذلك هو الطاعة، نعم إنما تكون الطاعة من غير المعصوم بإرشاد المعصوم، وهذا يستحق البشارة بل ومثله - تجب بشارته فرقا بينه وبين المخالف للمعصوم، وأما عمل الصالحات والامتناع من المعاصي جميعا فلا يمتنع حصوله من المؤمن المطيع، وصدور الذنب منه لو اتفق سهوا وغفلة لا عمدا لا ينافي كونه ممتنعا عن المعاصي، لأن مرتكب المعاصي من يعملها عمدا.

وأما بشارة المعدوم فهي كخطابه فلم لا تجوز، والتكاليف الشرعية كتابا وسنة كلها لمن حضر ومن هو آت، لا فرق في ذلك بين الشخصين؟ والقرائن أو الأدلة التي عممت خطاب المعدوم جائية في بشارته!!

نعم إنما نستفيد وجود المعصوم في كل زمان من هذه الآية الكريمة بتقريب آخر، وهوان نقول: إن الصالحات التي يعتبرها الشارع الأقدس صالحات لا نعرفها من طريق غير المعصوم لجواز الخطأ عليه، فلربما يأمرنا بالطالح بزعم أنه صالح، ففي كل جيل وعهد لا يصدق على الناس أنهم عملوا الصالحات حقا فاستحقوا الجنان إلا باتباع المعصوم وطاعته والأخذ عنه، وهذا يقضي بأن يكون في كل زمان معصوم، حتى تتعرف الناس الصالحات منه فتعمل بها.


الصفحة 84
والمبشر يجب منه جميع الطاعات ويمتنع منه جميع المعاصي لأن قوله تعالى: * (وعملوا الصالحات) * للعموم للمقدمة الثانية ومن جملتها فعل ضد القبايح والامتناع منها، فيلزم عدم صدور شئ من القبايح منهم، ثم ثبوت الاستحقاق قبل الموافاة يدل على ثبوت سببها الموجب لما تقرر والعلم غير الكاف لأنه غير موجب لأنه، والسبب هو العصمة فوجب ثبوت العصمة الآن لقوم غير النبي صلى الله عليه وآله والناس بين قائلين منهم من لم يقل بثبوت المعصوم أصلا، ومنهم من قال بثبوته في كل عصر فلا قائل بثبوته في عصر دون عصر فيكون باطلا، وقد ثبت في وقته فثبت في كل عصر فيستحيل كون الإمام مع ثبوته، ويستحيل من الحكيم إيجاب طاعة غير المعصوم على المعصوم وغيره مع وجود المعصوم بضرورة العقل.

الحادي والثلاثون: قوله تعالى: * (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) * الآية وجه الاستدلال إن الملائكة يستحيل عليهم الجهل المركب، وقد حكموا بأن وجود غير المعصوم يشتمل على مفسدة، فأجابهم الله تعالى بقوله: * (قال إني أعلم ما لا تعلمون) * معناه إن في وجوده من المصالح ما يقتضي ترجيح الوجود على العدم، فإذا كان وجود غير المعصوم يشتمل على مفسدة ما فيكون تحكيمه وتمكينه مع عدم معصوم يقربه ويبعده محض المفسدة القبيحة التي يستحيل صدورها منه تعالى، فلا يكون إماما، لا يقال هذا يدل على نقيض مطلوبكم، لأنه يدل على عدم عصمة آدم عليه السلام لأنه تعالى قال: * (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد) * إلى آخرها، والخليفة آدم، وقولهم إشارة إليه وإذا لم يكن النبي صلى الله عليه وآله معصوما فالإمام أولى أن لا يكون كذلك، لأنا نقول لا نسلم أنه يدل على عدم عصمة آدم عليه السلام، فإن قولهم:

* (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) * ليس إشارة إلى آدم وإنما هو إشارة من يلده آدم عليه السلام، إذ آدم عليه السلام لم يوجد منه فساد في الأرض ولا سفك دماء وهو ظاهر، ووجه الانكار أنهم عرفوا إن وجود آدم عليه السلام على وجه يحصل منه النسل والعقب المنتشر المتكثر مع عدم

الصفحة 85
عصمة أكثرهم مستلزم للمفسدة وهذا مما يؤكد امتناع تحكيم غير المعصوم.

الثاني والثلاثون: قوله تعالى: * (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * وجه الاستدلال يتوقف على مقدمات:

الأولى: إن هذا ترغيب في فعل أسباب نفي الخوف والحزن، وهو عام في كل عصر لكل أحد اتفاقا.

الثانية: إن كل ما رغب الله فيه فهو ممكن.

الثالثة: أن المراد نفي جميع أنواع الخوف والحزن في كل الأوقات، لأن النكرة المنفية للعموم.

الرابعة: إنه لا يحصل ذلك إلا بتيقن امتثال أوامر الله تعالى ونواهيه، وإنما يعلم ذلك بمعرفة مراد الله تعالى من خطابه جميعه يقينا ومعرفة مراد النبي صلى الله عليه وآله من خطابه.

الخامسة: إن ذلك لا يحصل من الكتاب والسنة إذ أكثرهما مجملات وعمومات وألفاظ مشتركة، والأقل منهما المفيد لليقين والسنة المتواترة منهما قليل، وقد قال بعض الأصوليين: إن الدلائل اللفظية كلها لا يفيد شئ منها اليقين، وقد بينا وجه ضعفه في الصول لكن اتفق الكل على أنه ليس كل الدلائل اللفظية مفيدا لليقين ولا يمكن انتفاء الخوف دائما والحزن في جميع الأحوال إلا مع تيقن المراد في خطابه تعالى، ولا يمكن إلا بقول المعصوم فيكون المعصوم ثابتا في كل فيستحيل إمامة غيره مع وجوده وهو ظاهر (1).

الثالث والثلاثون: قوله تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا

____________

(1) ويمكن الاستدلال بالآية من ناحية أخرى. وهي أن هدى الله تعالى لا يثاب بمخالفته، وإن موافقة غير المعصوم لا نحرز معها إصابة هداه تعالى لتجويز الخطأ عليه فلا نحرز الموافقة إذن بقول المعصوم واتباعه، فما أمر الله تعالى باتباع هداه إلا وجعل طريقا واضحا له، وهل هو إلا المعصوم، لجواز وقوع الخطأ في غيره بل لليقين بوقوعه ولو في بعض الأحكام.

واتباع هداه تعالى يجب في كل عهد، فلا بد من جعل الطريق له في كل عهد.


الصفحة 86
شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) * وجه الاستدلال إنه تعالى وصفهم بالعدالة المطلقة لأجل الشهادة على الناس، ولا بد أن يكون الشاهد منزها عن مخالفة رسوله في شئ أصلا حتى لا يكون للمشهود عليه لمخالفته حجة عليه ولا يكون كذلك إلا المعصوم (1).

الرابع والثلاثون: قوله تعالى: * (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة) * إلى قوله: * (هم المهتدون) * وجه الاستدلال إن إدخال الألف واللام على المحول مع ذكرهم في الموجبة يدل على انحصار المحمول في الموضوع، كما إذا قلنا زيد هو العالم يدل على انحصار العلم فيه، وقوله تعالى: * (أولئك هم المهتدون) * يدل على انحصار الهداية العامة، أعني في كل الأحوال وفي كل الأشياء فيهم، فيكون هذا إشارة إلى المعصومين من أمة محمد صلى الله عليه وآله وهم بعض الأمة وهو ظاهر، وإذا ثبت أن هاهنا معصوما فيستحيل وجود الإمامة في غيره، وهذه الآية عامة في كل عصر إجماعا، فيلزم وجود معصوم في كل عصر، ولأنه لا قائل بوجود معصوم غير النبي صلى الله عليه وآله في زمان دون زمان، لا يقال لو جعل المحمول طبيعة المهتدي لزم ما ذكرتم، لكنه ذكره بصيغة الجمع المعرف باللام، فإما أن يريد به بعض المهتدين ولا يتم دليلكم أو يريد به كل المهتدين، وهذا ممتنع، لأن القضية حينئذ تصير منحرفة موجبة محمولها مصور بألقاب الكلي، ومثل هذه القضية يمتنع صدقها لما بين في المنطق، وأيضا فلم لا يجوز أن يكون قوله تعالى هم المهتدون، وفي تلك القضية أي في الصبر لا مطلقا وعلى هذا يصح لأنا نجيب عن - الأول - إن مثل هذه القضية تصدق مع مساواة المحمول للموضوع

____________

(1) بل يجوزان يكون كذلك العادل الذي لم يخالف الرسول عمدا - ولكن يمكن أن تستفيد العصمة منها بتقريب آخر، وهو أنه تعالى جعلهم - والجعل منه - بين منزلة الرسول ومنازل الناس، فلو كانوا كالناس لما استحقوا هذه المنزلة، ولو كانت الخطيئة تجوز عليهم لما كانوا أهلا لذلك الجعل، على أن الجعل منه يقتضي أن يكون المجعول مقبولا لديه في شهادته ومن يجوز عليه الخطأ قد يظلم الناس في ذلك، فلا بد أن يكون معصوما لئلا تضيع حقوق عباده بسببه.


الصفحة 87
وإرادة ثبوت الكل للكل كما تقول مجموع أفراد الإنسان هي مجموع أفراد الناطق، وعن الثاني: إن ما ذكرتموه مجاز والحمل على الحقيقة أولى (1).

الخامس والثلاثون: لو لم يكن الإمام معصوما لزم إفهام الإمام والتالي باطل فالمقدم مثله بيان الملازمة أن الإمام إذا جاز عليه الخطأ لم يجز اتباعه إلا فيما علم أنه صواب، لكن هو الناقل للشرع، وإنما يعلم بقوله، فيتوقف معرفة صوابه، على قبول قوله، وقبول قوله على معرفة صوابه، فيدور فينقطع الإمام.

السادس والثلاثون: كل محكوم بإمامته يعلم منه أنه يقرب من الطاعة ويبعد عن المعصية دائما يقينا بالضرورة، ولا شئ من غير المعصوم يعلم منه أنه يقرب ويبعد مع تمكنه دائما يقينا بالضرورة، فلا شئ ممن يعلم إمامته بغير معصوم بالضرورة والسالبة المعدومة تستلزم الموجبة المحصلة مع تحقيق الموضوع، فيلزم كل من يعلم إمامته فهو معصوم بالضرورة وهو المطلوب (2).

____________

(1) ظاهر الآية أن كل صابر إذا أصابته مصيبة واسترجع كان بتلك - المثابة العليا من العطف الإلهي والتقدير لصبره وكان مهتديا، وعمومها يشمل المعصوم وغيره، ولا ينافي ذلك عموم الهداية للصبر وغيره إذ لا ينكر وجود فئة من المسلمين عدا المعصومين يحملون علم الهداية، ويعتبرهم اللطيف سبحانه ورسوله صلى الله عليه وآله من الأمة المهتدية.

نعم ربما نستفيد منها الدلالة على الإمامة من جهة أخرى، وتقريبها هوان صدق الهداية عليهم هل هو مع موافقتهم للشريعة أو حتى مع المخالفة، أما مع الثاني فلا يجوز لأن المخالفة للدين ضلالة لا محالة، فلا بد أن يكون مع الموافقة، وكيف نحرر الموافقة بدون الأخذ عن الإمام المعصوم العالم بأحكام الشريعة المنزلة، فالهداة إذن هم أتباع الأئمة المعصومين خاصة، فمن هنا نعرف أن هناك أئمة معصومين في الوجود تكون الهداية بالأخذ عنهم، لأن الآخذ عنهم عامل بالشريعة حقا.

وأما وجود الإمام في كل زمان فلأن الآية شاملة لكل عهد وجيل، ففي كل وقت يوجد فيه صابرون على ذلك النمط كانوا مهتدين بالرجوع إلى هداة الحق في عصورهم.

(2) وتوضيحه أن نقول: إن القضية الحملية التي يدخل حرف السلب طرفيها معا تسمى معدولة الطرفين، فمن هنا يكون قولنا: لا شئ ممن تعلم إمامته بغير معصوم بالضرورة حملية معدولة الطرفين، وهذه المعدولة السالبة تستلزم الحملية المحصلة الموجبة وهي ما كان طرفاها وهو الموضوع والمحمول محصلا فلازمها إذن أن نقول: إن كل من تعلم إمامته فهو معصوم بالضرورة، وبذلك يتم المطلوب لأن الموضوع المذكور في المعدولة معلوم يقينا، لأن من تصدى للإمامة وليس بمعصوم لم تثبت إمامته حتى يكون نقضا لموضوع هذه المعدولة.


الصفحة 88
السابع والثلاثون: غير المعصوم لا يمكن العلم بإمامته قطعا (1) وكل من لا يمكن العلم بإمامته لا يكون إماما ينتج لا شئ من غير المعصوم يكون إماما بالضرورة (2)، أما الصغرى فلأن الإمام هو الذي يقرب من الطاعة، ويبعد عن المعصية مع تمكنه دائما فكل من لم يعلم منه ذلك لا يعلم إمامته لتجويز خطئه وتعمده لارتكاب المعاصي والأمر بها وتجاوزه عن الأمر بالطاعة والعلم ينافي تجويز النقيض، وإنما يعلم ذلك بعصمة الإمام وهذا ظاهر، وأما الكبرى فلأنه إذا لم يمكن العلم بإمامته لو كان إماما لزم تكليف ما لا يطاق، وأنه لا تجب طاعته لعدم العلم بالشرط وإلا لزم تكليف الغافل، وقد بينا استحالته في علم الكلام.

الثامن والثلاثون: غير المعصوم أما أن يكفي في تقريب نفسه من الطاعة وتبعيده عن المعصية أو لا يكفي فإن كان الأول استغنى عن إمام مطلقا ولم يحتج إلى إمام، وإن كان الثاني، فإذا لم يكف في تقريب نفسه فأولى أن لا يكفي في تقريب غيره ولا يصلح.

التاسع والثلاثون: الإمام يجب أن يكون مقربا لجميع المكلفين في ذلك العصر الجايز عليهم الخطأ ومبعدا ولا شئ من غير المعصوم، كذلك فإنه لا يصلح لتقريب نفسه وتبعيدها، فلا شئ من الإمام بغير معصوم وهو المطلوب.

الأربعون: الإمام يجب أن يخشى منه بالضرورة ولا شئ من غير المعصوم يجب أن يخشى منه. ينتج لا شئ من الإمام بغير معصوم

____________

(1) وأما اعتبار الناس إمامته ومبايعته على الإمامة لا تجعله إماما حقيقة فلا نقطع بإمامته أحد ورضي الله تعالى بإمامته إلا من كان معصوما.

(2) لأن الإمامة ليست بالدعوى والاعتبار وإنما هي أمر حقيقي، فمن لا يمكن أن نعلم إمامته لا طريق لنا لتصديق إمامته المدعاة، فلا يكون إذن إماما، فمن ثم ينتج ما أشار إليه طاب ثراه بقوله: لا شئ من غير المعصوم يكون إماما بالضرورة.


الصفحة 89
بالضرورة. أما الصغرى فظاهرة فإنه لولا ذلك لانتفت فايدته، ولقوله تعالى: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) * فأوجب طاعته وكل من أوجب الله طاعته وجب أن يخشى منه لقوله تعالى: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) * وأما الكبرى فلأن غير المعصوم ظالم لصدور الذنب منه. وقال تعالى: * (فمنهم ظالم لنفسه وكل ظالم لا يخشى منه) * لقوله تعالى: * (إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم) * الآية لا يقال هذا قياس من الأول صغراه ممكنة، فإن غير المعصوم هو الذي يمكن أن يصدر منه الذنب ولا يشترط صدور الذنب بالفعل والقياس الأول الذي هو أصل الدليل من الشكل الثاني كبراه ليست ضرورية واختلاط الضرورية مع غيرها في الشكل الثاني لا نسلم أنه ينتج ضرورية لأنا نجيب عن الأول بأنه أما أن يصدر منه ذنب أولا، والثاني هو المعصوم، والأول هو غيره (1) سلمنا لكن قد بينا في علم المنطق أن الممكنة الصغرى في الأول تنتج وقد برهنا على خطأ المتأخرين فيه.

وعن الثاني: إنا قد بينا في كتبنا المنطقية انتاج الضرورية في الثاني مع غيرها ضرورية ولإمكان ردها إلى الضرورية، لأن الكبرى فيه ضرورية وبيانها ظاهر.

الحادي والأربعون: الإمام يزكيه الله تعالى قطعا يوم القيامة ولا شئ من غير المعصوم كذلك، فلا شئ من الإمام بغير معصوم، أما الصغرى فلقوله تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) * فقد زكاهم الله تعالى ويزكيهم الرسول والله يوم القيامة بقبول شهادتهم، وذلك إنما هو لامتثال أمر الله تعالى ونهيه والطاعات، فالإمام الذي هو مقرب لهم إلى الطاعة، ومبعد لهم عن

____________

(1) لا تلازم بين عدم العصمة وارتكاب الذنب، فقد يجوز لغير المعصوم أن لا يرتكب ذنبا طيلة حياته، نعم إنما يجوز عليه الخطأ، فمن ثم لا يخشى من ردعه لجواز أن يكون ما ردع عنه غير محرم في الشريعة.