الوجه الثالث والعشرون: قد أوجب الله تعالى الوصية كما في كتابه، وحث عليها رسول الله صلى الله عليه وآله حتى قال: من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية. فكيف يجوزان يليق نسبة النبي إلى ترك هذا الواجب المجمع على وجوبه المنصوص عليه في القرآن والمتواتر من الأخبار؟ وكيف يوجب على الأمة وعليه حكما، ثم يتركه من غير نسخ ولا إبطال؟ ولو سب الكفار نبينا عليه السلام لم يسبوه بأعظم من ذلك، وإذا امتنع منه عليه الصلاة والسلام ترك الوصية بطل القول لاختيار. لا يقال: إنما ندب إلى الوصية من كان عليه دين أو وصاية لغيره، أو كان له طفل إلى ما جرى هذا المجرى، وأما الأمور الدينية فلم يرد الشرع بالوصية فيها أصلا. لأنا نقول: الوصية في الدين أعظم من الوصية في الأمور الدنيوية: وبالخصوص من النبي صلى الله عليه وآله الذي هو مبدء الخير ومنبع الدين ومعلمه والمرشد إليه والدال عليه وقد حصر الله أحواله في الانذار فقال تعالى: * (إن أنت إلا نذير) * ومنصبه أعلى المناصب وأرفعها شأنا، فكيف يجوز أن يهمله ويجعله منوطا بمن يتلاعب به ومن يوصله إلى غير مستحقه، وكيف يمتنع ندب الوصية في الأمور الدينية، وقد ذكر الله تعالى في كتابه وصية إبراهيم لبنيه؟ وكذلك يعقوب، قال الله تعالى: * (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب) * وكيف يجوز أن تجب الوصية في أمور الدنيا ولا تجب في أمور الدين ممن هي منوطة به ومن هو مبعوث لأجلها وللإرشاد إليها.
الوجه الرابع والعشرون: لو كان لجماعة الأمة أو لبعضها أن يختاروا الإمام لوجب أن يكونوا أعلم من الإمام ليعرفوا بالامتحان علم الإمام وفضله ليختاروه ولو كانوا أعلم منه لكانوا بالإمامة أولى منه ولم يكن لهم أن يختاروه، وليس لهم أن يختاروا أنفسهم، وهذا يبطل الاختيار. ولا يقال: لا يجب أن يكون المرء أعلم من غيره حتى يعلم فضل علمه بل المرجوح أبدا يعلم فضل الراجح: فإنا نعلم رجحان أبي حنيفة في الفقه على علمائه، وسيبويه في النحو. لأنا نقول: مسلم أن المرجوح يعلم أن الراجح أفضل منه أما أن
الوجه الخامس والعشرون: لو وجب نصب الرئيس على الخلق فإما أن يشترط العلم باستحالة الظلم والتعدي منه أولا، والأول هو القول بالعصمة ولا يعلمها إلا الله تعالى، والثاني يستلزم جواز كون الضرر في نصبه أكثر من فقده (2).
الوجه السادس والعشرون: لو وجب على الناس نصب الرئيس وطاعته لدفع الفساد والمضار لوجب ترك الفساد، فاستغنوا بذلك عن نصب الرئيس فيسقط وجوبه، وهو خلاف المقدم، وهذا لا يتأتى على الإمامية القائلين بوجوب نصب الرئيس على الله تعالى لا على الرعية، لا يقال: إنهم لا يكفون عن الفساد. لأنا نقول: وقد لا يطيعون الرؤساء فيقع الفساد، لا يقال:
إذا لم يطيعوا الرؤساء، فمن قبل أنفسهم أوتوا، لأنا نقول: إذا لم يتركوا الفساد فمن قبل أنفسهم أوتوا، لا يقال: لا شبهة في وجوب ترك الفساد، ولكن كل زمان لا يخلو من صلحاء يكرهونه ومن جهال يطلبونه، والفساد عند نصب الرئيس أقل منه عند عدمه: فمن يكره وقوع الفساد لزمه تركه بنفسه، وأن يتوصل إلى منع غيره بإقامة الرئيس وأن يعينه بنفسه ورأيه وماله لأنا نقول الصلحاء لا تتفق آراؤهم في تعيين الرئيس بل تختلف، وقد يطلب كل واحد منهم ذلك المنصب لنفسه أو لمن له به عناية فيقع الهرج والمرج، ولأن الجهال لا يساعدون الصلحاء، وقد لا يمتثلون أمر ذلك الرئيس فيكثر
____________
(1) ربما، يقال: بأن المفضول لا يمنع عليه أن يعرف الأفضل من بين جماعة جميعهم أفضل منه، كما يعرف الأفضل منه بأنه أفضل منه، فإن صاحب الفضيلة لا يخفي عليه التفاضل بين أهل الفضل وإن كان جميعهم أفضل منه.
نعم إنما يعسر أو يتعذر معرفة أفضل الأمة مع كثرة البلاد وتباعدها وكثرة أهل الفضل فيها خصوصا في التفاضل في صفات تحتاج إلى الاختبار، واختبار الجميع يحتاج إلى أمد طويل وتجربة واسعة كالسياسة.
(2) فإذا جاز أن يكون الضرر في نصبه أكثر كيف يجوز نصبه؟ لأن الإمام إنما يراد للصلاح بحفظ الشريعة وإصلاح الأمة وقد أصبح للفساد.
الوجه السابع والعشرون: لو اقتضى تجويز ترك الواجب وجوب نصب الرئيس على المكلفين لزم التسلسل واللازم باطل، فالملزوم مثله: بيان الشرطية إن المقتضى لوجوب نصب الرئيس واجب يجوز منهم الاخلال به، فكان عليهم شئ آخر يصدهم عن الاخلال بهذا الواجب (2) كما وجب عليهم في تجويز وقوع الفساد نصب الرئيس لوجود المقتضى فيهما.
وأما قول الإمامية وهو أنه إذا وجب على المكلفين ترك الفساد وجاز منهم الاخلال به وجب على الله تعالى إقامة اللطف بنصب الرئيس، والله تعالى يستحيل منه الاخلال بالواجب، فاندفع محذور التسلسل، لا يقال: الملازمة ممنوعة: فإن تجويز ترك الواجب من كل واحد من الأمة يستلزم وجوب نصب الرئيس، لكن هذا الواجب لا يمكن تركه، فإنه واجب على كل الأمة على سبيل الاجتماع ومجموع الأمة من حيث مجموع معصوم. لأنا نقول:
المحال اجتماع كل الأمة على الخطأ أما إذا ارتكب بعضهم الصواب جاز أن
____________
(1) لا ريب في أن الرئيس الصالح يكون نصبه أصلح للأمة، وبه يكون دفع الفساد أكثر، ولكن الشأن في أن يختار الناس الأصلح ليكون وجوده أصلح من فقده، وإذا انتظرنا بعد اختياره واختباره، فقد نقع في مفاسد جمة فيكون عدمه أفضل من وجوده، فإن رضينا به فقد رضينا بالفساد، وإن عزلناه - وقد لا نستطيع - فلا نعتقد بأننا نظفر بخير منه، وإلى كم نبقى ونحن ننصب ونعزل وننصب ونعزل ولا ننتقل إلا من شر إلى أشر؟ ويكفيك شاهد عيان من تسلقوا المنابر فأين كان الصالح منهم للأمة وللشريعة؟ ولكن بناء على أن الإمامة منه تعالى وإنه سبحانه لا يختار لنا إلا الأصلح لا نجد من هذه المفاسد شيئا.
(2) وإيضاحه أن نقول: إن نصب الرئيس إذا قلنا بوجوبه لا بد أن يكون منبعثا عن واجب وإلا كيف يجب نصبه إذا لم يكن الباعث على نصبه واجبا؟ فإذا جاز أن يخل المكلفون بهذا الواجب الباعث احتاجوا إلى واجب آخر يصدهم عن الاخلال بهذا الواجب وهذا الثاني جاز أن يخلوا به أيضا فنحتاج إلى ثالث، وهكذا فيتسلسل.
الوجه الثامن والعشرون: لو وجب نصب الرئيس على الرعية لا على الله تعالى لزم أحد أمرين أما الاخلال بالواجب أو وقوع الهرج والمرج، والتالي بقسميه باطل إجماعا بالمقدم مثله، بيان الشرطية إن البلاد متعددة والمساكن متباعدة، وفي كل بلد وصقع يجب أن يكون لهم رئيس يردعهم عن الفساد، ولا أولوية لتخصيص بعض البلاد والأصقاع بكون الرئيس منهم، فإما أن يجب على كل بلد نصب رئيس ويلزم منه وقوع الهرج والمرج وإثارة الفتن وانتشار التنازع بين الرؤساء، إذ كل رئيس يطلب الرياسة العامة، وفي ذلك من الفساد أضعاف ما يحصل بترك نصبه، أو يجب على بعض البلاد ويلزم الترجيح بلا مرجح أو لا يجب على أحد وفيه بطلان وجوب نصب الرئيس على الرعية، أو يجب على كل بلد ولا يفعلونه ويلزم الاخلال بالواجب (1).
الوجه التاسع والعشرون: الاجماع واقع على أنه قوله تعالى:
* (" والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما "، " والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ") * وغيرهما من الآيات مطلقة غير مقيدة، فإذا ثبت
____________
(1) يمكن أن يقال: بأن نصب الرئيس إذا كان واجبا يجب حمل الناس عليه ولو بالقهر لأن مقدمة الواجب واجبة، فيجب على كل أحد مقدمة لنصب الرئيس أن يدفع غيره إذا أهمل أو قصر، فالوجوب إذن لا يخص أحدا ولا بلدا وتقصير البعض لا يسقط التكليف عن الآخرين فإذا قام جماعة من بلد أو بلدان لنصب الرئيس ونصبوه جاز أن يحملوا بقية الناس على الأتباع، وأمرا بالمعروف - ونهيا عن المنكر. غير أن هذا مجرد فرض، وإلا كيف يمكن لهؤلاء أن يحملوا الناس دون فتن وتنازع بحيث لا يقعون بالأفسد؟ وأنى يكون لجماعة الأمرين وحدة لا تتفكك؟ وإذا اختلفوا فمن المتبع قوله وأمره منهم؟ واتباع بعضهم ترجيح بلا مرجح، وليس لهؤلاء البعض قهر الآخرين من أمثالهم الذين قاموا بالواجب.
____________
(1) الظاهر أنه أراد به أخطب خوارزم أبا المؤيد الموفق بن أحمد صاحب كتاب (مناقب أهل البيت عليهم السلام) المتوفى عام 568.
(2) يمكن أن يقال: بأن الخطاب متجه إلى الإمام خاصة، ولا يكون ذلك موقوفا على شئ، لأن الإمامة بعد فرض وجوبها على الأمة، وأن الأمة قائمة بهذا الفرض دائما فالإمام موجود دائما فإليه يتجه الخطاب، وهكذا جميع الخطابات القرآنية وغيرها، فإنه هو الحافظ للشريعة المقيم لحدودها والمسير لنظامها، غير أن الشأن كله في أن الإمام تتجه إليه الخطابات القرآنية وغيرها، والذي يجب أن يقيم الحدود من هو عالم بالكتاب والشريعة ومن هو عالم بالحدود ليقيمها حسبما وردت في الدين دون تحريف وتصحيف، وأما من يجهل مفاد الخطابات ويجهل الحدود كيف يصح خطابه وتصح إقامته للحدود، فمن ثم يعلم أن المخاطب في - الكتاب والسنة والمقيم للحدود كما جاءت هو الإمام المعصوم فحسب.
وقد استدل أبو الحسين البصري بهذه الآية على وجوب نصب الأئمة على الرعية بأن قوله تعالى: * (فاقطعوا) * مشترك بين التوصل إلى القطع وبين مباشرة القطع فإنه يقال قطع الأمير السارق إذا أمر بقطعه فقطع، وقطع الجلاد السارق إذا باشر القطع، وليس المراد المباشرة فإن ظاهرها عام متناول للكل وليس يمكن مباشرة الكل القطع، ولو أمكنهم لم يكن المراد ذلك للإجماع على أنه ليس للأمة أن يأمروا الجلاد بالقطع من دون أن يتولى ذلك الأمر الإمام، فإذن المراد بها التوصل إلى القطع وإذا كان كذلك فالأمة يدخل في جملتهم من يصلح للإمامة، ومن يمكنه العقد له فيلزم الكل التوصل إليه بمقدماته وليس إلا القبول والعقد، والجواب من وجهين: الأول: إن الأمر بالقطع لا بالتوصل إليه وقد تقدم ذلك فيما نحن قررناه. الثاني: أنه يصح أن يقال في الإمام إنه قطع السارق ويفهم عرفا أنه أمر بالقطع كما يفهم حقيقة في الجلاد إنه قطع إذا باشره فيصح أن يكون حقيقة فيهما في حق الإمام عرفا وفي حق الجلاد لغة، أما العاقدون للإمامة فلا يقال إنهم قطعوا السارق بمعنى إنهم عقدوا عقد الإمامة لمن أمر بقطع السارق لبعد ذلك في اللغة، وإن جعل مجازا كان بعيدا في الغاية واللفظ لا يحمل على مجازه البعيد في الغاية مع وجود الحقيقة.
وأقول: لفظ القطع حقيقة في المباشرة وقد يطلق على السبب مجازا للسببية والأسباب تتفاوت في القرب والبعد، وفي العموم والخصوص، ويتفاوت بذلك المجاز في الأولوية، والأمر بالقطع بعض الأسباب إذا ليس علة تامة والعقد سبب بعيد عام والأمر أقرب منه، فلا يجوز الحمل على العقد مع وجود الحقيقة والقرب وإمكانهما خصوصا السبب البعيد العام فإنه يكاد أن يكون من الأسباب الاتفاقية فلا يجوز حمل اللفظ عليه.
أما المقدمة الأولى: فلاستحالة تعليل أفعاله تعالى بالأغراض، وأما الثانية، فلأن نفي الحسن والقبح العقليين يستلزم جواز إظهار المعجز منه على يد الكاذب، ولأن نفي وجوب شئ عليه تعالى يستلزم جواز إثابة العاصي على معصيته وعقاب المطيع على طاعته، وإدخال الأنبياء النار وإدخال الفراعنة الجنة، وهذا مما يعده العقلاء سفها لو صدر من آدمي، فكيف إذا صدر من قادر حكيم؟ سبحانه وتعالى عما يصفون، وأما الثانية:
فهي واهية لوجوه، الأول: أن الإمام لطف في حال غيبته وظهوره، أما مع
____________
(1) مفعول ممكن مضاعف العين.
____________
(1) قد يقال بأننا نجد الناس مع وجود الإمام ظاهرا يرتكبون المعاصي إذا لم يكن متمكنا، فكيف به غائبا؟ وأما أن تجويز المكلف ظهوره كل لحظة فلا نراه حاجزا عن اقتحام الموبقات، فأين اللطف فيه؟
فالأجدر في تعليل اللطف حال الغيبة بأن يقال نفس وجوده لطف وذلك لأن فيه إقامة للحجة على العباد، ولما كان خذلان الناس له هو الذي أوجب غيبته وعدم تمكينه كانت الحجة عليهم أتم، فهم يعلمون بأن الحجة بوجوده قائمة عليهم والتكليف غير مرفوع عنهم، والعصيان مسؤولون عنه، فمن ثم يكون ذلك مقربا لهم إلى الطاعة مبعدا عن المعصية.
(2) إذا قصرت الرعية في القيام بواجب الطاعة والسمع لم يحصل التمكين، فعدم التمكين لا من ناحيته تعالى، ولا من ناحية الإمام نفسه، وإنما كان من ناحية الأمة فحسب.
وهذا لا يختص بالإمام، فإن كثيرا من الأنبياء عليهم السلام، لم يتمكنوا من تسيير نظامهم وتمشية شرائعهم، فهل كان عدم تمكنهم لعدم اللطف في بعثهم أو لتقصيرهم في التبليغ أو لرفض الناس أقوالهم ونصحهم، ولا يشك أحد في أن عدم التمكين إنما كان لخذلان الناس لهم وعدم السمع والطاعة منهم.
وأما الثالثة: فلأن الإمام يجب أن يكون معصوما، لأن الإمام لو جاز أن يخل بالواجبات أو يفعل المقبحات لامتنع أن يكون نصبه لطفا وإلا لزم أن يكون داخلا فيما هو خارج عنه أي يكون من المحتاجين إلى نفسه لجواز المعصية عليه ومن غير المحتاجين إليه لكونه محتاجا إليه والمحتاج إليه غير المحتاج لاقتضاء الإضافة تغاير المضافين وسنزيد بيانه فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وأما الرابعة: فهي ضعيفة جدا من وجهين، الأول: إن الواجب عليه ما يفيد التقريب والتبعيد وما أوردتم لا يزيد التقريب والتبعيد، فهو غير وارد علينا، بيانه أن المكلف إذا استوت نسبته إلى ما يريد الحكيم منه وإلى ما لا يريده، فيجب على الحكيم أن يقربه إلى ما يريده ويبعده عما لا يريده حتى يحصل ترجيح أحد الطرفين المتساويين على الآخر الذي لا يتم الوقوع إلى به، وأما إذا كان إلى ما يريده أقرب فالترجيح حاصل وموجب الوجوب وهو التساوي المانع عن الوقوع زائل فلا يجب عليه (1).
الثاني: إنه يكفي في كل زمان وجود معصوم، ويستحيل وجوب شيئين كل واحد منهما يقوم مقام الآخر دفعة (2).
وأما الخامسة: فلأنا قلنا بوجوب الإمام على تقدير التكليف. فلا
____________
(1) وإلا لوجوب عليه تعالى أن يجعل في كل بلد معصوما بل في كل قبيلة لأنه يكون أكثر مقربية ومبعدية، ومثله الشأن في الأنبياء، فيرسل لكل بلد نبيا بل لكل قبيلة.
(2) وذلك لأن أمير البلد إذا كان معصوما أغنى عن الإمام، وكذا القاضي والنائب وما سواهما فما الحاجة إذن إلى الإمام.
البحث السابع: في عصمة الإمام، وهي ما يمتنع المكلف معه من المعصية متمكنا منها، ولا يمتنع منها مع عدمها (1) اختلف الناس في ذلك فذهبت الإمامية والإسماعيلية إليه ونفاه الباقون وجوه:
الأول: لو كان غير معصوم لكان محتاجا إما إلى نفسه أو إلى إمام آخر فيدور أو يتسلسل وهما محالان، وذلك لوجود العلة المحوجة إليه فيه (2) لا يقال: المعصوم لا يخلو أما أن يقدر على المعصية أو لا يقدر، فإن قدر فلا يخلو أو أن يمكن وقوعها منه أو لا يمكن، فإن أمكن فهو كسائر المكلفين في الحقيقة من غير امتياز، وإن لم يمكن فقدرته على ما لا يمكن وقوعه لا يكون قدره، وإن لم يقدر فهو مجبور وليس ذلك بشرف له، وأيضا إذا جاز أن يمتنع وقوع المعصية من شخص من المكلفين بفعل الله تعالى، ولا يضر ذلك قدرته وتمكنه من الطرفين فالواجب أن يجعل جميع المكلفين كذلك إذا كان الغرض من وجودهم إيصال الثواب إليهم دون وقوع المعصية وعقابهم عليها، وأيضا فلم لا يجوز أن يكون الانتهاء في الاحتجاج إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو القرآن وينقطع التسلسل.
لأنا نجيب عن الأول: بأنه يقدر عليها ولكن لا يقع مقدوره منه لعدم
____________
(1) هذا التعريف غير مانع لأنه يشمل العدالة أيضا، فلا بد من أخذ قيد فيه يخرج منه العدالة بأن نقول إن عصمة الإمام ما يمتنع معها من المعصية متمكنا - منها عمدا وخطأ سهوا ونسيانا، فإن العدالة حينئذ خارجة عنه، لأن العدالة لا يضر معها ارتكاب المعصية خطأ، ولكن ذلك ضائر في المعصوم، فالمعصوم والعادل يشتر كان في العمد ويفترقان فيما عداه.
(2) لأن العلة المحوجة إلى عصمة الإمام هي جواز الخطأ على البشر فهم في تفهم الشريعة والأخذ بأحكامها يحتاجون إلى من لا يخطئ فيها، فإذا لم يكن ذلك المنصوب معصوما احتاج إلى غيره وذلك الغير إن رجع في الحاجة إلى هذا الإمام دار، أو إلى إمام ثالث، والثالث إلى رابع، وهكذا تسلسل إلى إذ انتهى إلى معصوم، فالمعصوم لا بد منه في كل أوان وزمان، وإلا فالإمامة في خطأ دائم، وهو خلاف اللطف.
وعن الثاني: إنا لا نقول إن الحكيم تعالى جعل شخصا واحدا بفعله معصوما من غير استحقاق منه لذلك، لكنا نقول: كل من يستحق الألطاف الخاصة التي هي العصمة بكسبه، فهو تعالى يخصه بها ثم الإمام يجب أن يكون من تلك الطايفة فالمكلفون بأسرهم لو استحقوا بكسبهم تلك الألطاف لكانوا كلهم معصومين، فظهر أن الخلل في عدم عصمتهم جميعا راجع عليهم لا عليه تعالى.
وعن الثالث: إن نسبة غير المعصومين إلى النبي صلى الله عليه وآله والقرآن نسبة واحدة فلو جاز أن يكون النبي الموجود في زمان سابق أو القرآن مغنيا لمكلف مع جواز خطأه عن الإمام لجاز في الجميع مثل ذلك، وحينئذ لا يجب احتياجهم جميعا إلى الإمام وقد سبق فساد اللازم فظهر فساد الملزوم.
الثاني: لما ثبت وجوب نصب الإمام على الله تعالى بالطريق الثاني فنقول: إنا نعلم ضرورة أن الحاكم إذا نصب في رعيته من يعرف منه أنه لا يقوم بمصالحهم ولا يراعي فيهم ما لأجله احتاجوا إلى منصوب قبله تستقبح العقول منه ذلك النصب وتنفر عنه، ونصب غير المعصوم من الله تعالى داخل في هذه الحكم (2) فعلمنا أنه لا ينصب غير المعصوم، فكل إمام ينصبه الله
____________
(1) إن من ينظر بعين بصيرته إلى عظم الخالق تعالى وقوة سلطانه وجلالة - قدره، وما أعده لأهل الطاعة من جليل الثواب ولأهل العصيان من أليم العقاب يمنعه عقله من الإقدام على المخالفة خوف النكال والسخط والبطش، فكيف إذا بلغت به المعرفة والقرب إلى أن يكون، والجنة كمن رآها والنار كمن شاهدها، بحيث لو كشف له الغطاء ما ازداد يقينا؟ ويرى من آثار عظمة الخالق وقدرته ما يزيد بصيرة في سلطانه وقوة في قهره وبطشه، أترى مثل هذا تغلب الشهوة أو قوة الغضب على ملموساته ومحسوساته؟ فمن ثم لا يحصل لديه داعي العصيان أبدا وإن قدر عليه.
(2) إن الغرض من نصب الإمام - كما علم مرارا - حاجة البشر إلى المعصوم - لجواز الخطأ عليهم، فلو جاز عليه الخطأ أيضا وجاز أن يكون في نصبه فساد كان نقضا للغرض، فلا بد من أن تستقبح العقول نصب من يخالف القصد والغرض مع العلم بالمخالفة ومع إمكان أن ينصب من يحصل به الغرض وهو المعصوم كيف يتركه إلى غيره، وإلا فهو ليس بحكيم - تعالى عن ذلك علوا كبيرا - فمن هنا يتضح أن كل إمام مستند إليه نصبه، فهو معصوم.
سؤال: فليكن خوف الإمام من عقاب الآخرة لطفا له؟
جواب: الإمام يشارك غيره في الخوف فلما لم يكن ذلك مغنيا لهم عن
____________
(1) لو سلمنا امتناعه عن الخطأ فهو إنما يمتنع عمدا وجهرا، ولكن كيف شأنه مع السهو والغفلة والنسيان، وارتكاب العصيان سرا؟ فجواز الفساد في إمامته لا مفر منه.
(2) قد يقال، إن الأمة وإن لم تقو على عزل الولاة رأسا لأن نصبهم لا يعود إليهم، ولكنها تقوى على عزل الرئيس المطلق، لأن نصبه كان إليهم، ومن بيده النصب يكون بيده العزل، غير أن الشأن الذي يراعي هنا هو أن خوف العزل وحدة لا يمنع عن الخطأ سرا أو سهوا كما سبق بيانه فالفساد ملحوظ بالإمام غير المعصوم.
(3) قد أوضحنا إن خوف العزل وحده لا يمنع من الخطأ وشاهده من تعاقب على كراسي الحكم، فقد كان يجري على بعضهم العزل ولا يمنع الباقين من ارتكاب الخطأ عمدا وسهوا.
وعن الثالث، يمنع الحصر وأيضا فلم لا يجوز أن يكون الفرق أن الإمام حاكم على كل المسلمين فوجبت عصمته بخلاف النائب - وأيضا - فلم لا تكون العصمة لأجل عدم حكم غيره عليه بخلاف النائب، فإن الإمام يحكم عليه في تلك الحالة أو في ما بعد - الثالث - أن الإمام حافظ للشرع (1) فيكون معصوما، أما الصغرى فلأن الحافظ له ليس هو الكتاب لوقوع النزاع فيه ولعدم إحاطته بجميع الأحكام، وليس هو السنة للوجهين السابقين ولاتفاق المسلمين على أنها ليست الحافظة للشرع ولأنها متناهية والحوادث غير متناهية، وليس هو الأمة لجواز الخطأ عليهم إذا خلوا عن الإمام، لأن كل واحد يجوز كذبه فالمجموع كذلك، ولأن الاجماع إنما يحصل في قليل من المسائل، ولأن الاجماع إنما يثبت كونه حجة إذا ثبت كون النقلة معصومين وإنما يثبت ذلك بالسمع لأنا لو علمناه بالعقل لكان إجماع النصارى حجة، والسمع يتطرق إليه النسخ والتخصيص، فلا بد من معرفة عدم الناسخ
____________
(1) إن حفظ الإمام للشرع بأن يعلم جميع ما جاءت به الشريعة ويعمل تطبيقا على نفسه وعلى الأمة، فلو علم بعضا وجهل بعضا، أو طبق بعضا وأهمل بعضا لم يكن حافظا، فلما لم يكن الكتاب والسنة جامعين لما في الشريعة على ما في دلالتيهما من النزاع، ولا الأمة تعلمها كذلك، ولا تعمل بها لو علمتها بأجمعها، لم يحصل الحفظ بالكتاب والسنة ولا بالأمة، فلا بد من المعصوم حينئذ، لأن الله تعالى ما أنزل الشريعة إلا ويريد إلا ويريد الاحتفاظ بها والعمل بها من الأمة، وهذا لا يتأتى بدون حافظ عالم بجميع ما جاءت به الشريعة قائد رادع للأمة، ولا يكون كذلك غير المعصوم، وأما مثل القياس والبراءة إذا انضما إلى الكتاب والسنة، فلا يحصل بهما ولا بالجميع حفظ الشريعة، لما أشرنا إليه، فإن الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يحصل العمل بها حسبما بها بمثل ذلك، لأننا نعتقد بأن الاختلاف في - الكتاب والسنة، ومخالفة القياس والبراءة وغيرهما أحيانا للشريعة يوقعنا بالخطأ، فأين الاحتفاظ بالشرع الذي يراد الاحتفاظ به مع المخالفة له علما وعملا؟
الرابع: إذا صدر عنه الذنب فأما أن يتبع وهو باطل قطعا، وإلا لم يكن ذنبا ولقوله تعالى * (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) * وأما أن لا يتبع فلا يكون قوله مقبولا فلا يكون فيه فائدة (1).
الخامس: إن كان نصب الإمام واجبا على الله تعالى استحال صدور الذنب منه لكن المقدم حق على ما تقدم فالتالي مثله بيان الشرطية أنه لو صدر عنه الذنب لجوزنا الخطأ في جميع الأحكام التي بأمر بها وذلك مفسدة عظيمة، وإن الله تعالى حكيم لا يجوز عليه المفسدة.
السادس: قوله تعالى * (لا ينال عهدي الظالمين) * أشار بذلك إلى عهد الإمامة والفاسق ظالم (1).
____________
(1) بل يجب على الأمة ردعة عن الذنب فتكون الأمة حينئذ هي الإمام المقوم له المصلح لفساده، فأين إمامته؟ فإن سكتت عنه اشتركت معه في المآثم، فإن رضى تعالى بمثل هذا الإمام فقد رضي للأمة الموافقة على الجرائم - تعالى عن ذلك علوا كبيرا - وإن أبى - ولا بد من أن يأبى - لهم ارتكاب أو الرضى به، فلا يكون ذلك إلا بجعل الإمام المعصوم.
فلا يخرج عن العدالة، فالآية لا تدل على العصمة بنحو ما ذكره، نعم إنما تخرج من سبق منهم الفسق بالكفر أو بغيره، ومن تلبس به عند اعتلائه منصة الحكم بناء على شمول المشتق لمن تلبس بالمبدأ ولو فيما مضى، ولكن تفيدنا الآية اعتبار العصمة في الإمامة من ناحية أخرى. وهي أن نيل العهد كان منه تعالى، وكيف ينيل تعالى ولايته وعهده من يجوز عليه الخطأ فيقع ويوقع الأمة بالفساد من حيث يدري ولا يدري؟ وقد أراد الله تعالى الإمامة للصلاح، فلا بد أن يكون الذي ينيله تعالى عهده من كان معصوما. فإن قلت: إن مقتضى مفهوم الوصف إن العهد ينال بعمومه من لم يكن ظالما سواء كان - عادلا أو معصوما -. قلنا: إننا لو نقول بمفهوم الوصف - ولا نقول به - ففي المقام منصرف عن العموم لما أشرنا إليه من أن النيل لما كان منه عز شأنه فلا يختص إلا بذوي العصمة وهذه قرينة الانصراف.
الثامن: إنه تعالى قادر على نصب إمام معصوم والحاجة للعالم داعية إليه ولا مفسدة فيه، والكل ظاهر فيجب نصبه (2).
____________
(1) قد يقال: إن النظام اليوم قام بدون إمام معصوم حاضر متمكن، فلا حاجة إذن له من هذه الناحية، ولكن نقول: إن القصد من تمام النظام تمامه على النهج الشرعي القويم، الذي يكون المرء فيه أمينا على نفسه وعرضه وماله، وإن أصيب في شئ من هذه الثلاثة، فالإمام ينتصف له من ظالمه حسب الشريعة على قدر ظلامته، لا يأخذ له دون حقه، ولا ينتصف من ظالمه بأكثر من حقه، وأين هذا النظام اليوم، ومتى كان؟
(2) وإنما تمحل قوم في مخالفة هذا الظهور العقلي الوجداني، واتبعوا أنفسهم في التخلص - بزعمهم - من هذا الوجوب، تصحيحا لإمامة من زعم الإمامة ونسبت إليه، وما كانوا منها بسبب أو نسب على أن ذلك الدفاع عنهم ما كان إلا تعليلا بعد الوقوع وإلا فإن اعتبار العصمة في الإمامة أظهر من أن يحتاج إلى برهان.
العاشر: تجويز الخطأ هو إمكانه، فإذا أوجب الاحتياج إلى علة في عدمه كانت واجبة العدم، إذ جميع الممكنات تشترك في الامكان، فتشترك في الاحتياج إلى علة خارجة، والخارج عن كل الممكن لا يكون ممكنا، وواجب عدم الخطأ هو المعصوم (2).
الحادي عشر: لو كان الإمام غير معصوم لزم تخلف المعلول عن علته التامة لكن التالي باطل، فالمقدم مثله بيان الملازمة أن تجويز الخطأ على المكلف موجب لإيجاب كونه مرؤسا لإمام والإمام لا يكون مرؤسا لإمام وإلا لكان إمامه من غير احتياج إليه (3).
الثاني عشر: أنه يجب متابعته بدليل اللغة والإجماع والعقل، وأما اللغة
____________
(1) وإيضاحه أن نقول: إن الخطأ صفة نقص في الإنسان، فهو يحتاج في رفع خطأه إلى غيره، فإذا كان الغير أيضا مثله متصفا بتلك الصفة - أعني الخطأ - لم يجد عنده ما يرفع به من نقصه ويكمل به نفسه، لأنهما معا مشتركان في النقص، فلا بد في رفع ما يجده من النقص أن يرجع إلى الكامل فاقد ذلك النقص، وما هو إلا المعصوم.
(2) وبيانه أن نقول: إن الممكنات تحتاج في وجودها وعدمها إلى علة، والعلة لا تكون من جنسها، ولو كانت مثلها ممكنة أيضا احتاجت إلى خارج عنها غير ممكن، وغير الممكن هو الواجب، فالخطأ من البشر ممكن، وإذا أردنا عدمه كان المعدم خارجا عنه وواجبا بالفعل لأن الممكنات كلها مشتركة بالامكان فلا تصلح لعلية الاعدام، فالبشر إذن في رفع الخطأ الممكن يجب أن يرجع إلى المجرد عن الخطأ، وهو من نسميه بالواجب، وما هو إلا المعصوم.
(3) فإذا انتهت الحاجة إلى المعصوم كان المعصوم غنيا عن غيره، فيكون فوق الجميع، وهو الرئيس ومن سواه مرؤوسا.