إنه من فعل الله تعالى لأن الإمام يجب أن يكون معصوما فلا يمكن أن يكون نصبه من فعل غير الله لأن غير المطلع على السرائر لا يكون مطلعا على السرائر، فلا يقدر أن يميز الموصوف بامتناع وقوع المعصية عنه أو عن غيره حتى ينصبه إماما، الثالثة: إنه لا يقوم غيره مقامه وقد تقرر ذلك فيما مضى.
الرابعة: إن كل لطف شأنه ذلك فهو واجب على الله تعالى على ما قد بيناه في علم الكلام. الخامسة: إنه تعالى لا يخل بالواجبات (1) وهذا قد تقرر وبين في باب العدل.
الوجه الثاني: كل ما كان التكليف واجبا عليه تعالى، فنصب الإمام واجب عليه تعالى، لكن المقدم حق فالتالي مثله بيان الملازمة من وجوه، الأول: إنه لا يتم فائدته وغايته (2) إلا بنصب الإمام، فيكون أولى بالوجوب، الثاني: إنه إنما يجب التكليف السمعي لكونه لطفا في التكاليف العقلية، وهذا لطف في التكاليف السمعية واللطف في اللطف في الشئ لطف في ذلك الشئ أيضا فيجب، الثالث: إنما وجب التكليف لأنه خلق فيهم القوى الشهوية والغضبية، وخلق لهم قدرا (3) فوجب من حيث الحكمة التكليف، وإلا لزم الاختلال والفساد، وهذا بعينه آت في نصب الإمام ولا يتم إلا بنصب الإمام، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب فيكون نصب الإمام واجبا (4) على تقدير وجوب التكليف، وأما حقية المقدم فقد بين في
____________
(1) فإنه مع القدرة على الفعل ووجوب الداعي إليه يكون الاخلال به قبيحا ويستحيل عليه تعالى فعل القبيح كما أشرنا إليه قريبا.
(2) يعني التكليف، وذلك لأن التكاليف كما يريدها تعالى لا تعلم ولا يعمل بها إلا بنصب الإمام المعصوم.
(3) جمع قدرة.
(4) هاهنا أمور ثلاثة أشار إليها طاب ثراه، حفظ النظام ورفع الفساد واجب ولا يتم ذلك إلا بنصب الإمام وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فينتج أن نصب الإمام واجب.
وهذه الأمور الثلاثة نشير إلى بيانها موجزا فنقول: خلق الله تعالى الإنسان ذا قدرة وشهوة وغضب، وهذه شؤون تبعث على الفساد واختلال النظام وجدانا وعيانا لو بقي الإنسان ونفسه، فوجب عليه تعالى أن لا يتركهم سدى، بل يجعل لهم قانونا يكون به حفظ النظام ومنع الفساد، وهذا القانون ما نسميه بالشريعة والمبعوث بها الرسول وبعد انتقال الأنبياء إلى دار الحيوان تبقى الناس والشريعة ولكن تبقى الناس على ما خلقهم عليه وفيهم القدرة والشهوة والغضب وما دامت فيهم هذه القدر والقوى لا يرتفع الفساد ولا يصلح النظام، لتعارض الشهوات وتغالب القدر وتكافح الغضب، ولا تذعن النفوس لنواميس الشرائع تماما حتى تقهرها وتتغلب على هاتيك الشرور النفسية - إن النفس لأمارة بالسوء -.
ولما كانت طاعة البشر وقمع الشرور التي فيهم بحفظ النظام والله عز شأنه يريد ذلك وجب عليه تعالى أن يقوم بحفظه دون الجاء للعباد، بل مع بقاء القدر والقوى والاختيار والإرادة فيهم، وهل يتم ذلك بدون قدير على الحفظ عليم بنواميس الدين كما يريد تعالى نبراس الهداية وعلم الرشاد؟ والحائل دون انغماسهم في بحور الضلال والشقاء، لا يخطئ في تحمل تلك النواميس ونقلها عمدا وسهوا فإن الخطأ يباين الحفظ، فإذا كان الحفظ وإصلاح البشر موقوفا على الحافظ المصلح وجب عليه سبحانه أن ينصبه إقامة للحجة - والله الحجة البالغة - وهل ذلك المصلح الحافظ غير الإمام المعصوم، وإذا وجب عليه شئ قام به فلا يهمله، وكيف يجوز عليه تعالى إهمال هذا الواجب العظيم الذي به حياة الشريعة والبشر؟ مع بيانه لأقل - واجب في الدين حتى الأرش في الخدش، وقصاص الضرب والجرح والتعزير على - المخالفات البسيطة وحرمة أخذ المال من غير حله، ولو كان قنطارا، والنظر إلى ما لا يحل ولو لحظة، والغيبة ولو كلمة، إلى غير ذلك، بل أبان من المسنونات في كل باب من أبواب الشريعة ما لا يحصر وما يترتب على ذلك من أجر وشر - ومن يعمل مثقال ذرة.. الخ - فإذا كان تعالى قد قطع عذر العباد بجعل النواميس النظامية والعبادية، كيف يجعل لهم العذر بالتلاعب بتلك النواميس عمدا وخطأ، وتسبيب الفوضى بالنظام والأحكام؟ فالواجب عليه أن يقيم لهم المصلح الحافظ وهو القدير على إقامته، أفيخل بالواجب أو يعجز عن إيجاد ذلك الحجة؟ - تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا -.
الوجه الثالث: إن وجوه وجوبه تتحقق في الله تعالى وكل ما كان كذلك كان واجبا عليه، ينتج أن نصب الإمام واجب عليه تعالى، أما الصغرى فلأن وجه وجوب التكليف يتحقق هنا مع زيادة هي كونه لطفا فيه وأما الكبرى
الوجه الرابع: إن الحسن على قسمين منه ما وجوبه لازم لحسنه بحيث كلما حسن وجب، ومنه ما ليس كذلك، والإمامة من الأول إجماعا (1) ولأنها تصرف في الأموال والأنفس والفروج في العالم، فلا تحسن إلا عند ضرورة ملزمة بما تقتضي وجوبها كأكل طعام العين في المخمصة وشرب مائه ونصب الإمام حسن من الله تعالى ولطف فيكون واجبا (2).
النظر الخامس
في نقل مذهب الخصم وإبطاله
إعلم أن الناس اتفقوا على أن الإمام لا يصير إماما بنفس الصلاحية للإمامة بل لا بد من أمر متجدد وإلا لزم أحد الأمرين، إما المنع، من مشاركة اثنين في الصلاحية لها وذلك بعيد قطعا أو كون إمامين في حالة واحدة، وهو مجمع على خلافه، ثم اتفقت الأمة بعد ذلك على أن نص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على شخص بأنه الإمام طريق إلى كونه إماما، وكذلك الإمام إذا نص على إنسان بعينه على أنه إمام بعده، ثم اختلفوا في أنه هل غير النص طريق إليها أم لا، فقالت الإمامية: لا طريق إليها إلا النص بقول النبي صلى الله عليه وآله أو الإمام المعلومة إقامته بالنص، أو بخلق
____________
(1) إذ لم يخالف في الوجوب إلا الخوارج والمجمعون على وجوب الإمامة إنما اختلفوا في مدرك الوجوب، وهل هو العقل أو السمع أو هما معا، كما أنهم لم يختلفوا في حسن الإمامة غير أن حسنها عقلي أو سمعي.
(2) وأما كون الحسن في الإمامة بالغا إلى مرتبة تبعث على الوجوب فلما أشار إليه من مكانتها من الأمة ومركزها الاجتماعي، فإن الإمام له حق التصرف في أهم الموجودات في الحياة وهي الأنفس والفروج والأموال، فيما إذا اقتضت - المصلحة ذلك النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم - إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا - فلو لم تكن المصلحة تلزم بتخويله هذه المنزلة لم يجعلها الله تعالى له، وهذه أكبر مرتبة في الوجود، فكيف لا تكون هذه المصلحة الباعثة على هذه المرتبة غير ملزمة، ودونها بمراتب عديدة كما بين السماء والأرض تبعث على الوجوب؟.
____________
(1) وهم أصحاب الحسن بن صالح بن حي الهمداني الكوفي، وكان من أصحاب الإمام الباقر عليه السلام ثم خالف بعد حين طريقته.
(2) وهم أصحاب كثير النوى وجماعة آخرين على شاكلته، وكان أبتر اليد وقيل إنما سموا البترية نسبة إليه وقد يسمون الأبترية، وقد جاء لعنه وجماعة معه على لسان الإمام الصادق عليه السلام.
(3) وهم من فرق الزيدية أيضا نسبة إلى سليمان بن جرير.
الأول: إن الإمامية عندنا من جملة ما هو أعظم أركان الدين، وإن الإيمان لا يثبت بدونها، وعندهم إنها ليست من أركان الدين بل هي من فروع الدين لكنها من المسائل الجليلة والمطالب العظيمة، فكيف يجوز استناد مثل هذا الحكم إلى اختيار المكلف وإرادته؟ ولو جاز ذلك لجاز فيما هو أدون منه من أحكام الفروع.
الوجه الثاني: إن الشارع نص على عدم الخيرة، فقال الله تعالى:
(وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) فنقول: إما أن يكون الله تعالى قضى بترك الإمامة فلا يجوز للأمة الخيرة بإثباتها (1) وإما أن يكون قضى بها فتكون كغيرها من أحكام الشريعة التي نص الله تعالى عليها ولم يهملها وهو المطلوب.
الوجه الثالث: القول بالاختيار ونصب الإمام بقول المكلفين تقديم بين يدي الله تعالى ورسوله، وقد نهى الله تعالى عن ذلك فقال عز من قائل:
* (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) *.
الوجه الرابع: إن الله سبحانه وتعالى في غاية الرحمة والشفقة على العباد والرأفة بهم، فكيف يهمل الله تعالى أمر نصب الرئيس مع شدة الحاجة إليه (2) ووقوع النزاع العظيم مع تركه ومع استناده إلى اختيار المكلفين، فإن
____________
(1) بل حتى لو لم نعلم بقضائه تعالى بترك الإمامة وإنما علمنا سكوته عنها فإن السكوت أيضا يمنع الأمة من الخيرة بإثباتها، لأن سكوته تعالى إن كان لعدم وجوبها، فكيف توجبها الأمة؟ وإن كان سكوته مع أنها واجبة عليه - فهو وإن كان محالا - إلا أن الأمة أجدر بالسكوت فيما سكت عنه العليم اللطيف سبحانه أفهل ترى أن الأمة أعلم وأدرى بالواجب بالصالح؟
(2) ولو فرض محالا إنه تعالى أهمله مع شدة الحاجة إليه لكانت الأمة أحق بالاهمال، فلماذا تكلفت اختياره؟.
فإن قلت: إنما أهمله رأفة بالأمة لئلا يقعوا في محذور مخالفته ولئلا يقع الهرج والمرج بالنص عليه، قلنا: إذا كان في نصبه محاذير لم تكن في نصبه مصلحة أو تكون المفسدة أغلب، فلا يجب عليه نصبه، فتكون الأمة في فسحة من هذا الواجب فهي بالاهمال أجدر فلا وجوب عليها لهذه المحاذير.
الوجه الخامس: إن الله تعالى قد بين جميع أحكام الشريعة أجلها وأدونها حتى بين الله تعالى كيفيات الأكل والشرب وما ينبغي اعتماده في دخول الخلاء والخروج منه والعلامات الجليلة والحقيرة، فكيف يهمل مثل هذا الأصل العظيم ويجعل أمره إلى اختيار المكلفين مع علمه تعالى باختلافهم وتباين آرائهم وتنافر طباعهم.
الوجه السادس: القول الذي حكيناه عن الجويني (2) ينافي مذهبهم من استناد الأفعال إلى قضاء الله وقدره وإنه لا اختيار للعبد في أفعاله بل هو يجبر عليها مقهور لا يتمكن من ترك فعله (3).
الوجه السابع: القول باستناد الإمامة إلى الاختيار مناقض للغرض ومناف للحكمة، لأن القصد من نصب الإمام امتثال الخلق لأوامره ونواهيه والانقياد إلى طاعته، وسكون نائرة الفتن وإزالة الهرج والمرج وإبطال التغلب والمقاهرة، وإنما يتم هذا الغرض ويكمل المقصود لو كان الناصب للإمام عين المكلفين لأنه لو استند إليهم لاختيار كل منهم من يميل طبعه إليه، وفي ذلك
____________
(1) فإن حكمته تعالى في توحيد الزعيم جلية، لأن الأمة تكون جميعها متمسكة بحبل واحد، ويكون قائدها واحدا، ودليلها واحدا، وفي ذلك من الفوائد دنيا ودينا ما لا يخفى على أحد، فيما إذا كان الزعيم جامعا للشروط.
(2) إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن أبي محمد عبد الله بن يوسف الجويني الشافعي، حكي أنه جاور بمكة المكرمة أربع سنين وبالمدينة المنورة يدرس ويفتي، فلذا لقب بإمام الحرمين، وله مصنفات كثيرة توفي عام 478 هـ بنيسابور وجوين ناحية من نواحي نيسابور.
(3) فإن قلت: إن قولهم بأن اختيار الإمام من الأمة أيضا راجع إليه سبحانه لسلبه الاختيار منهم، وإنما نسمي ذلك اختيارا منهم تجوزا، لاستنادها ظاهرا إليهم، وهذا لا ينافي قولهم باستناد الأفعال إلى قضائه تعالى حقيقة، قلنا: فلماذا إذن هذا النزاع والجدال، فالأحرى تسليمهم للقائلين بأن نصب الإمام منه عز شأنه دون رأي واختيار للأمة.
الوجه الثامن: وجوب طاعة الإمام حكم عظيم من أحكام الدين فلو جاز استناده إلى المكلفين لجاز استناد جميع الأحكام إليهم وذلك يستلزم الاستغناء عن بعثة الأنبياء عليهم السلام لأنهم إنما بعثوا لنصب الأحكام فإذا كان أصلها مستغنى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان غيره أولى (2).
الوجه التاسع: إما أن يشترط في الاختيار اتفاق الأمة عليه أو لا،
____________
(1) ولكن لو فرض تسالمهم على رجل واحد واتفاق طباعهم وميولهم إليه لم تكن هناك فتن ولا هرج ولا مرج فلا يناقض نصبه الغرض حينئذ، فالأحرى في الجواب أن يقال: إن الحكمة الإلهية في توحيد الإمام جمعهم على الحق وصدهم عن الباطل، وحفظ الشريعة عن التلاعب والقدرة على تسيير نظامها وتمشية أحكامها إلى ما سوى ذلك من وظائف الإمام وهذا لا يكون في سائر البشر مهما علت مراتبهم وسمت فضائلهم، فلا يقوم بذلك غير المعصوم، فإن غيره يجوز عليه الخطأ فلا يحصل به الغرض فلا يؤمن من أن يأمر أو يعمل بما يخالف الشريعة، فكيف يكون من الدين طاعته وموافقته وإن خالف الدين؟ فنحن إن خالفناه وافقنا الدين ولكن خالفنا الأمر بطاعته إن صح إننا مأمورون بطاعته، وإن وافقناه خالف الدين ولكن وافقنا الأمر بطاعته ونحن في محذور على التقديرين، وأين هذا مما لو كان الإمام معصوما؟
(2) وقد يدفع هذا الإشكال بأن الواجب على الأمة حكم واحد وهو نصب الإمام، وهذا لا يستلزم الاستغناء عن بعثة الأنبياء عليهم السلام لأنهم يأتون بشرائع ذات أحكام لا تحصى تسير البشر تسييرا صحيحا لا حيف فيه ولا إجحاف، واني للبشر في علمها ومداركها بوضع شرائع صحيحة تغني عن الشرائع الإلهية، فمن ثم يجوزان يستند إلى الأمة نصب الإمام ولا تستغني عن بعثة الأنبياء عليهم السلام.
فالجدير في الجواب عن ذلك أن يقال: بأن للإمام أحكاما وتكاليف عديدة تجب عليه للرعية، وأخرى تجب له على الرعية، فمن الواضع لهذه الأحكام؟ فإن كان الله تعالى، فهل وضعها لإمام لم يأمر به ولم ينصبه، فإذا لم يوجب نصبه فكيف أوجب أحكامه؟؟ أو وضعها لإمام أوجب نصبه فهو المطلوب، وإن كانت الأمة فقد جاءت بإمام وأحكام ما أنزل الله بها من سلطان، وما عرفهما الرسول صلى الله عليه وآله ولا أمر بهما، فمثل هذا الإمام كيف تجب طاعته؟
ومثل تلك الأحكام كيف تعتبر من الشريعة؟
____________
(1) المعتزلي ابن أحمد بن عبد الجبار الهمداني الأسد آبادي شيخ المعتزلة في عصره استدعاه الصاحب بن عباد إلى الري وبقي فيها مواضبا على التدريس إلى أن توفي عام 415 ه.
(2) وقد يدفع هذا الإشكال أولا: بأن اشتراط الاتفاق لحظة واحدة لا ملزم للقول به، بل نقول بجواز اتفاقهم ولو تدريجا، وبعد أمد تصبح مجمعة عليه، وإما أن اتفاقهم لا يكون فمدفوع لجواز وقوعه ويكفي في الفرض الجواز، وثانيا: لو يجوز الاتفاق لحظة واحدة؟ وذلك فيما لو استناب أهل كل صقع رجلا يختار عنهم، واتفق النواب كلهم على واحد لحظة واحدة كما يقع اليوم في اختيار الملوك ورؤساء الجمهوريات، وثالثا: بأن اتفاق الجميع لا تشترط فيه - معرفة الجميع، بل يكفي فيه معرفة أهل الصلاح والعلم، والناس تتبعهم حسن ظن بهم، فالأحرى إذن أن يقال في الجواب: بأن الاتفاق لو فرض حصوله دفعة أو تدريجا وإنه حصل عن معرفة الجميع أو معرفة أهل العلم والصلاح فلا يغني ذلك في فائدة الإمام وحكمة نصبه، فإن ذلك لا يجعله حافظا للشريعة مأمونا من الخطأ عمدا وسهوا، ولربما تعتقد بوقوع المخالفة للشريعة، وهو فيما لو تعاقب إمامان وأفتى كل واحد منهما بما يخالف الآخر في الحدود أو المواريث أو سواهما، فإنا نقطع بأن أحدهما مخالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله من الدين، بل جوز عليهما معا المخالفة، وإن ما جاء به غير ما أفتيا فيه فكيف نصيب في هذه الإمامة أحكام الشريعة، وكيف يرتضي اللطيف تعالى إمامة مثل هؤلاء؟ وللفرار منها مندوحة.
الوجه العاشر: الإمام يجب أن يكون معصوما على ما يأتي فيجب أن يثبت التعيين بالنص لا بالاختيار لخفاء العصمة عنا لأنها من الأمور الباطنة الخفية التي لا يعلمها إلا الله تعالى (2).
الوجه الحادي عشر: الإمام يجب أن يكون أفضل أهل زمانه دينا وورعا وعلما وسياسة، فلو ولينا أحدنا باختيارنا لم نأمن أن يكون باطنة كافرا أو فاسقا (3) ويخفي علينا أمر علمه والمقايسة بينه وبين غيره في هذه الكمالات،
____________
(1) ولو سلم الاكتفاء بأي عدد كان فبايع كل جماعة من كل بلد رجلا منهم على الإمامة دفعة واحدة، فمن الإمام من بين هؤلاء وليس أحدهم أولى من الآخر، وقد يكون هؤلاء الأئمة بعدد العشرات أو المآت أفيجوز عليه تعالى أن يمضي مثل هذا الوجوب، أو يرتضى للأمة مثل هذا النصب؟ وأين الحكمة الإلهية في نصب الإمام وحفظه للشريعة وإصلاح الأمة، فمن هو الحافظ المصلح من بين هؤلاء.
(2) ولو سلم إمكان معرفة العصمة للناس، ولكن هل في الامكان اتفاق الناس على المعصوم لو كان الاختيار لهم، أو التسليم له بعد معرفته، والناس أهواء متفرقة وآراء مشتتة، والوجدان شاهد عيان، فإن الناس مع حكم العقل به، وأمر الله تعالى بنصبه، وقيام الرسول عليه وآله السلام مبلغا إمامته، أنكره قوم، وخالفه آخرون، وجحد عصمته فئة جمة، إلى غير هؤلاء، فكيف لو كان اختياره للناس.
(3) ولو فرضنا إننا علمنا بإيمانه وعدالته علما باتا لا ريب يعتريه، ولكن ذلك لا يثبت أفضليته قبل اختباره لا سيما في مثل السياسة، التي لا تعلم الأفضلية فيها قبل الاختبار فلا يجوز لنا اختباره قبل اختياره، كيف نختبره قبل الاختيار فيلزم الدور.
على أننا لو اكتفينا بالاختيار قبل الاختبار فكيف نعرف أفضليته قبل اختبار سواه؟ فكم يحتاج من الزمن لاختبار؟ وكم عدد تختبرهم الناس؟ ومن هم المختبرون - دون سواهم؟ ولو اختار كل بلد فئة للاختبار واختلف هؤلاء فقول: من المتبع؟ ولو طال الزمن للاختبار والامتحان، فماذا تصنع الناس في هده الفرصة؟ ومن هو الإمام فيها والمتصرف في شؤونها والحافظ للشريعة؟ وهل يجوزان تبقي الناس حولا أو أحوالا بلا إمام؟ على أن بلاد الإسلام متباعدة وأهل الفضيلة فيهم كثيرون، فكيف نعرف الأفضل منهم بالاختبار وإن طال الأمد دون إشارة منه عز لطفه؟
الوجه الثاني عشر: أهل الحل والعقد لا يملكون التصرف في أمور المسلمين فكيف يصح منهم أن يملكوها غيرهم؟ لا يقال: كما أمكن أن يمكن ولي المرأة التزويج بالغير ولا يملك الاستمتاع بها أمكن ذلك فيها هنا، لأنا نقول: يمنع أولا كون الولي لا يملك الاستمتاع بها إذا لم يكن محرما، سلمنا لكن الفرق ظاهر فإن المرأة لما كانت ناقصة العقل جاهلة بأحوال الرجال افتقرت في تمليك بعضها للغير إلى نطر ولي شفيق عليها يختار لها الكفء دون غيره بخلاف أهل الحل والعقد (1).
الوجه الثالث عشر: القول بالاختيار يؤدي إلى الهرج والمرج وإثارة الفتن فيكون باطلا، بيان الشرطية أن الإمام إذا توفي وتعددت البلاد لم يكن أهل بعضها أولى بأن يختاروا الإمام دون غيرهم، فإذا ولوا رجلين ولم يكن عقد أحدهما أولى من الآخر أدى ذلك إلى الفتنة (2) ولا يقال
____________
(1) لا أدري لماذا جعل ولي المرأة مناط الحكم في المقام؟ فإن أدلة المرأة إذا قامت على أن وليها له أن يزوجها وإن لم يملك الاستمتاع بها فلا يعني ذلك إن الحكم سار إلى الإمامة، فالأجدر في الجواب أن يقال: إنه لم يثبت عقلا أو نقلا إن لأهل الحل والعقد حق التصرف في شؤون المسلمين دون غيرهم من سائر الناس وقياس الإمامة على ولي المرأة قياس مع الفارق للنص ولم تثبت وحدة المناط حتى يصح القياس.
(2) قد يقال: ربما يؤدي إلى الفتنة هذا الاختيار، وذلك فيما لو تسالم الطرفان على واحد أو رجعا إلى القرعة، نعم قد يؤدي إلى الفتنة ما لو استمر الشجار وأصر كل قوم على من اختاروه، فالفتنة غير لازمة على كل حال، فالأحرى في الجواب أن ينقل الكلام إلى الاختيار ويمنع كونه طريقا إلى نصب الإمام.
الوجه الرابع عشر: تفويض الإمام إلى الاختيار يؤدي إلى الفتن والتنازع ووقوع الهرج والمرج بين الأمة وإثارة الفساد، لأن الفساد مختلفو المذاهب متباينو الآراء والاعتقادات، فكل صاحب مذهب يختار إماما من أهل نحلته (وعقيدته) ولا يمكن غيره ممن ليس من أهل نحلته أن يختار الإمام، فالمعتزلي يريد إماما معتزليا، وكذا الجبري والخارجي وغيرهم، فإذا اختار كل واحد منهم إماما من أهل نحلته نازعتهم الفرقة الأخرى وذلك هو الهرج العظيم، وقد كان في شفقة الرسول صلى الله عليه وآله بأمته ورحمة الله تعالى على عباده ما يزيل ذلك، مع أنه تعالى نص على أحكام كثيرة لا يبلغ بعضها بعض نفع الإمامة، فكيف يليق من رحمة الله تعالى ومن شفقة رسوله إهمال الرعايا وتركهم همجا يموج بعضهم في بعض؟ هذا مناف لعنايته تعالى ولا يرتضيه عاقل لنفسه مذهبا.
لا يقال إن ذلك لم يقع لأنا نقول هذا جهل تام، ولو لم يكن إلا ما في زمن علي عليه السلام ومعاوية والحروب التي وقعت بينهم لكفى، وكذا في زمن الحسن والحسين عليهما السلام، ثم عدم الوقوع في الماضي لا يستلزم عدمه في المستقبل، وأيضا مجرد التجويز كاف في منع استناد الإمامة إلى الاختيار (1).
____________
(1) على أنه لو سلمنا أن الاختيار لا يؤدي إلى الفتنة والتنازع والفوضى ولكن متى اتفقت الأمة أو اتفق على الاختيار، ومتى ملكت أو تملك الاختيار ومتى قدرت أو تقدر على الاختيار الأصلح، فما ذاك إلا فرض ما كان ولكن يكون إلى آخر الأبد فما الجدوى في الجدال في مثل هذه الفروض؟ فلا إمامة قامت أو تقوم بالاختيار بين المسلمين من البدء حتى الساعة وإلى أن تقوم الساعة.
ولو قيل: إن إمامة بعضهم وإن لم يرض جميع المسلمين بها من البدء ولكن رضاهم ولو بعد حين كاف في صحة إمامته، لقلنا: إن عمل القائم بالأمر في شؤون المسلمين باسم الخلافة قبل الاجماع عليه عمل باطل وتصرفه تصرف غير صحيح ومن يرتكب الباطل كيف تصح إمامته - لا ينال عهدي الظالمين - فهو قبل الاجماع لا إمامة له، وبعد الاجماع أصبح ظالما لا تصح إمامته لما كان منه من تصرف وعمل باسم الخلافة قبل الخلافة، وإلا لجاز تصرف كل أحد في شؤون المسلمين بأمل أن يختاروه ولو بعد حين للإمامة، وإذا تصدى بعضهم لأن يختاروه فلا يجعله إماما عند التصدي، ولا يقين بأنه سوف يلبس حلتها، فلا إمامة له حين العمل لعدم الاجماع عليه، ولا بعد العمل لأن العمل أبعده عنها.
____________
(1) بعد القول بأن الإمام لطف لا مندوحة من الاعتراف بوجوب النص عليه، وإلا لزم الاخلال منه تعالى بالواجب ولا مجال للقول بالاختيار مع الاعتراف بأن الإمامة لطف، وإنما القائلون بالاختيار ينكرون لطف الإمامة.
الوجه السادس عشر: لو جاز أن يثبت الإمامة بالاختيار لجاز أن يثبت
الإمام أيضا يراد لتعريف الشرع وحفظه وصيانته عن التغيير والتبديل لعصمته بخلاف غيره من الأمة، ويجب اتباعه وطاعته والانقياد إلى قوله: فلا بد من أن يثبت إمامته بطريق يؤمن عنده من جواز الخطأ.
الوجه السابع عشر: الصفات المشترطة في الإمام خفية لا يمكن الاطلاع عليها للبشر كالإسلام والعدالة والشجاعة والعفة وغيرها من الكيفيات النفسية (2) فلو كان نصبه منوطا باختيار العامة لكان إما أن يشترط العلم بحصولها في المنصوب بالاختيار، وهو تكليف ما لا يطاق، أو يشترط الظن، وقد نهى الشرع عن اتباعه قال الله سبحانه وتعالى: * (إن يتبعون إلا
____________
(1) قد تمنع دعوى اشتراك النبي والإمام في جميع المصالح، لأن وظيفة النبي التشريع والتبيلغ عن الله تعالى، وهذا لا يقوم به سائر البشر، وأما الإمام فليس من وظيفته التشريع والتبليغ، وإنما يراد منه حفظ ما شرعه وبلغه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
فالأصح في الجواب ما ذكره أخيرا من أن الإمام يراد منه تعريف الشرع وحفظه وصيانته عن التغيير والتبديل بخلاف غيره من الأمة، وإذا جاز عليه الخطأ لم يحصل منه المراد، فلا بد من عصمته ليقوى على القيام بهذه الوظائف.
(2) قد يقال: إن عدم إمكان الاطلاع على الصفات النفسية ممنوع، لا سيما في مثل ما ذكره من الصفات، وإلا كيف تحكم الناس فيما بينهم من بعضهم على بعض بالاسلام والعدالة وما سواها، وأما مثل الشجاعة، فأمرها بارز، نعم إنما يشكل الحال في السياسة وغنى النفس عما في أيدي الناس وأمثالهما من الصفات التي لا تعرف إلا بعد الاختبار لا سيما إذا اعتبرنا الأفضلية فيها، فإنه يدور الأمر بين القناعة بالإمام المفضول أو العاري عن بعض صفات الفضل وبين الاختبار زمنا طويلا ليقع الاختيار على الأفضل على أنه كيف نظفر بالأفضل وبنوا الإسلام ما أكثرهم والبلاد ما أوسعها؟ ومن الذي يختار فترضى الأمة باختياره؟ ومن قائد الأمة وسائسها وحافظ الدين أيام الاختبار؟ إلى أمور جمة لا يمكن الالتزام بها إذا قلنا بالاختيار، ولكن ذلك كله لا يرد على القول بوجوب نصب الإمام عليه عز شأنه.
الشارع قد أمر باتباع الظن في قبول الشهادات والمسائل الفروعية. لأنا نقول: العام إذا خص بدليل لا يخرج عن دلالته في ما عدا محل التخصيص.
الوجه الثامن عشر: لو ثبتت الإمامة بالاختيار لكان لمن يثبتها باختياره أن يبطلها ويزيلها باختياره كما في الأمير والقاضي، وإذا لم يعمل في إزالتها علمنا أنه لا يعمل في ثبوتها (1) لا يقال: هلا كان الأمر فيها كالأمر في ولي المرأة، أنه يملك تزويجها ولا يملك فسخ العقد بعد التزويج، لأنا نقول:
الفرق ظاهر فإن الشارع جعل لإزالة قيد النكاح سببا مخصوصا غير منوط بنظر الولي ولا بنظر المرأة، بل بالزوج بخلاف ولاية الإمامة فإنها منوطة باختيار العامة لمصلحتهم على تقدير ثبوتها به.
الوجه التاسع عشر: لو كان لجماعة أن تولي الإمام لكان الإمام خليفة لها على نفسها، وليس للإنسان أن يستخلف على نفسه، كما ليس له أن يحكم لنفسه وهو يبطل الاختيار. لا يقال: هلا كان من ذلك كحدوث حادثة للمجتهد، فإذا اجتهد وعمل فإنه لا يكون ذلك حكما لنفسه أو على نفسه بل يكون حكما لله وللرسول عليه السلام بشرط اجتهاده، وكذلك المختارون إذا اختاروا الإمام: لأنا نقول: الفرق ظاهر فإن حكم الله تعالى
____________
(1) قد يقال: إنه لا تلازم بين الاثبات والإزالة: فإن كثيرا من الهبات والعقود والايقاعات يقدر المرء على إثباتها ولا يقدر على إزالتها، نعم إلا بشروط خاصة، ومثلها الإمامة بالاختيار، فإنه يمكن إزالتها أيضا بشروط خاصة، كما إذا فسق أو كفر أو ما سوى مما يقتضي بعزلة، فثبوت الإمامة لا يلزم إزالتها على أنه يمكن أن يكونا معا بيد الأمة، فكما كان الثبوت بشروط تكون الإزالة أيضا بشروط، نعم إنما تمنع أن يكون أصل ثبوتها بيد الأمة لبراهين تقدم شطر منها ويأتي الشطر الآخر.
الوجه العشرون: ولاية الإمام أعظم الولايات، فإذا لم تثبت هذه الولاية للعامة ولا للخاصة، فكيف يملكون إثباتها لغيرهم؟ لا يقال: المثبت لولاية الإمام هو الله تعالى، فإن الإمام إذا أمر غيره أن يولي أميرا فولاه فإنه يكون مضافا إلى الإمام دون من ولاه، لأنا نقول: إذا سلمتم إن الولاية من الله تعالى ارتفع النزاع على إنكم لا تذهبون إلى ذلك، بلى تجعلون الأمر مفوضا إلى اختيارنا، وليس إذا وجبت علينا إقامة الرئيس فاخترنا نحن من شئنا ولاية ولا يخرج بذلك نصب الإمام عن استناده إلينا.
الوجه الحادي والعشرون: الإمام خليفة الله تعالى ورسوله فلو ثبتت إمامته بالاختيار لما كان خليفة لهما، لأنهما لم يستخلفاه، ولا يجوز أن يكون خليفة للأمة لقول الكل إنه خليفة الله تعالى ورسوله، وهذا يبطل الاختيار، لا يقال: إنه خليفة الله عند اختيارهم على ما بيناه. لأنا نقول: كيف يكون خليفة الله ولم ينص الله عليه بل جعله مفوضا إلى اختيارنا؟ ولو كان بسبب ذلك خليفة الله لجاز أن يبعث الله نبيا ويجعل الأحكام مستندة إلى اختيارنا وتكون بسبب ذلك مستندة إليه تعالى وهو باطل قطعا.
الوجه الثاني والعشرون: كيف يجوز من النبي صلى الله عليه وآله أن يفوض
أعظم الأمور إلى غيره وهو تولية الإمام مع علو مرتبة هذا الأمر؟ فإن أعظم
المراتب هو النبوة والإمام نائب عنه، وحاكم كحكمه، ووال كولايته، ولا
يتولى الولاية بنفسه، فكيف يهمل ذلك؟ وهذا يبطل العقد بالاختيار
ويوجب إثبات النص، لا يقال: جاز أن تكون المصلحة شرعا في أن يفوض
عليه السلام اختيار الأئمة إلى غيره: لأنا نقول: نعلم انتفاء المصلحة في
ذلك بل ثبوت مفاسد كثيرة ولو جاز ذلك جاز أن يعلم الله تعالى أن تكون